عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ١٣١
عندي ابنته وانا استحي أن اسأله. قال المقداد: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: إذا وجد أحدكم ذلك فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة)، ثم الذي يدل على أنه أريد بالنضح ههنا الغسل، ما رواه مسلم وغيره عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: (كنت رجلا مذاء فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته، فامرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ). والقصة واحدة، والراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد، ومما يدل على أن النضح يذكر ويراد به الغسل ما رواه الترمذي وغيره عن سهل بن حنيف قال: (كنت ألقى من المذي شدة، وكنت أكثر منه الغسل، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنما يجزيك من ذلك الوضوء. قلت: يا رسول الله فكيف بما يصيب ثوبي منه؟ فقال: يكفيك أن تأخذ كفا من ماء فتنضح به من ثوبك حيث يرى أنه أصابه). وأنه أراد بالنضح ههنا الغسل.
واما الثاني: وهو أن الرش يذكر ويراد به الغسل، فقد صح عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، أنه لما حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ غرفة من ماء فرش على رجله اليمنى حتى غسلها، وأراد بالرش ههنا صب الماء قليلا قليلا، وهو الغسل بعينه.
ومما يدل على أن النضح والرش يذكران ويراد بهما الغسل قوله، عليه الصلاة والسلام، وفي حديث أسماء، رضي الله تعالى عنها: (تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه). معناه: تغسله، هذا في رواية الصحيحين، وفي رواية الترمذي: (حتيه ثم اقرضيه ثم رشيه وصلي فيه). أراد: اغسليه، قاله البغوي، فلما ثبت أن النضح والرش يذكران ويراد بهما الغسل، وجب حمل ما جاء في هذا الباب من النضح والرش على الغسل بمعنى إسالة الماء عليه من غير عرك، لأنه متى صب الماء عليه قليلا قليلا حتى تقاطر وسال حصل الغسل، لأن الغسل هو الإسالة. فافهم.
فإن قلت: قد صرح في رواية مسلم وغيره: (فاتبعه بوله ولم يغسله)، فكيف يحمل النضح والرش على الغسل؟ قلت: معناه ولم يغسله بالعرك كما يغسل الثياب إذا أصابتها النجاسة، ونحن نقول به. قال النووي: وأما حقيقة النضح ههنا فقد اختلف أصحابنا فيها، فذهب الشيخ أبو محمد الجويني والقاضي حسين والبغوي إلى أن معناه أن الشيء الذي أصابه البول يغمر بالماء كسائر النجاسات، بحيث لو عصر لانعصر، وذهب إمام الحرمين والمحققون إلى أن النضح أن يغمر ويكاثر بالماء مكاثرة لا يبلغ جريان الماء وتقاطره، بخلاف المكاثرة في غيره، فإنه يشترط فيها أن يكون بحيث يجري بعض الماء ويتقاطر من المحل، وإن لم يشترط عصره، وهذا هو الصحيح المختار، ثم إن النضح إنما يجزئ ما دام الصبي يقتصر به على الرضاع، أما إذا أكل الطعام على جهة التغذية فإنه يجب الغسل بلا خلاف، وسنقول معنى النضح مما قاله أهل اللغة في الحديث الآتي، ولا فرق بين النضح والغسل فيما قاله البغوي والجويني. وقال ابن دقيق العيد: اتبعوا في ذلك القياس، أراد أن الحنفية اتبعوا في هذه المسألة القياس، يعني: تركوا الأحاديث الصحيحة وذهبوا إلى القياس، وقالوا: المراد من قولهما، أي: من قول أم قيس، ولم يغسله، أي: غسلا مبالغا فيه، وهو خلاف الظاهر.
ويبعده ما ورد في الأحاديث الأخر التي فيها التفرقة بينهما أوجه: منها: ما هو ركيك، وأقوى ذلك ما قيل إن النفوس أعلق بالذكور منها بالإناث، يعني: فحصت الرخصة في الذكور لكثرة المشقة. قلت: نقل عن بعضهم للغمز على الحنفية، ولكن هذا لا يشفي غلتهم، فقوله: اتبعوا في ذلك القياس، غير صحيح، لأنهم ما اتبعوا في ذلك إلا الأحاديث التي احتج خصمهم بها، ولكن على غير الوجه الذي ذكروا، وقد ذكرناه الآن محررا، على أنه قد روي عن بعض المتقدمين من التابعين ما يدل على أن الأبوال كلها سواء في النجاسة، وأنه لا فرق بين بول الذكر والأنثى، فمنها ما رواه الطحاوي، وقال: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال: الرش بالرش والصب بالصب من الأبوال كلها. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد عن حميد عن الحسن أنه قال: بول الجارية يغسل غسلا وبول الغلام يتبع بالماء، أفلا يرى أن سعيدا قد سوى بين حكم الأبوال كلها، من الصبيان وغيرهم، فجعل ما كان منه رشا يطهر بالرش، وما كان منه صبا يطهر بالصب، ليس لأن بعضها عنده طاهر وبعضها غير طاهر، ولكنها كلها عنده نجسة، وفرق بين التطهير من نجاستها عنده بضيق مخرجها وسعته إنتهى كلام الطحاوي ومعنى قوله: وفرق... إلى آخره، أن مخرج البول من الصبي ضيق فيرش البول، ومن الجارية واسع فيصب البول صبا، فيقابل الرش بالرش والصب بالصب.
ومنها: أن فيه الندب إلى حسن المعاشرة واللين والتواضع والرفق بالصغار وغيرهم.
ومنها استحباب حمل الأطفال إلى أهل الفضل للتبرك بهم، وسواء في هذا الاستحباب المولود حال ولادته أو بعدها.
(١٣١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 126 127 128 129 130 131 132 133 134 135 136 ... » »»