وحالا كان من الممكن الاستفادة منها إلى أبعد الحدود، لو تجرد الذين اهتموا بهذه المواضيع عن نزعاتهم واخذوا بالواقع الذي تفرضه الدراسة العلمية الواعية، وعرضوا الأحاديث سندا ومتنا على علمي الدراية والرجال عرضا عمليا بقصد تصفيته مما يسئ إلى السنة، بل وحتى إلى الاسلام نفسه، واهتموا بأحاديث الاحكام وغيرها مما هو مدون في مجاميع الحديث على علاته ومصائبه، ولكنهم لم يوفقوا لذلك، فقد رافقتهم النزعات الموروثة في جميع المراحل التي مروا بها واهتموا بالأسانيد أكثر من اهتمامهم بالمتون، مع العلم بان الاخطار الناتجة عن متونها لا تقل عن اخطار الأسانيد، واحتضنوا أحاديث الاحكام تاركين غيرها من المرويات في مختلف المواضيع كأنها لا تعنيهم، مع أنها ان لم تكن أولى بالدراسة والتصفية من أحاديث الاحكام، فليست تلك بأولى منها ولا أكثر شمولا وأعم نفعا، ذلك لان الدساسين والمرتزقة قد وجدوا متسعا لهم عن طريقها للوصول إلى ما يهدفون إليه وقد بلغ الحال بالوضاعين انهم كانوا إذا استحسنوا أمرا صيروه حديثا، كما نص على ذلك بعضهم، وحجتهم في ذلك انهم يضعون له لا عليه على حد تعبيرهم.
هذا بالإضافة إلى أن الخلافات المذهبية قد استحوذت عليهم في الدراسات المتعلقة بهذه المواضيع منذ تدوين الحديث إلى آخر مرحلة من المراحل التي مروا بها، فقد ظهر كل فريق بمظهر المدافع عن مروياته ومجاميعه لا بمظهر الناقد النزيه الذي يهمه ان ينتقي الجوهر من الحصى، وان يدفع عن الحق شبه المبطلين والمنحرفين ولو كان الحق بجانب أخصامه ومنافسيه.