عنان التوجه من عوالم الظهور والانجلاء، بنية العود إلى مكامن الكمون والخفاء، حتى إذا نزلت في محروسات آذان السامعين، وحلت في مأنوسات مشاعر الناظرين، نزعت ملابسها الحرفية، فتجردت عن ملابسها الهيولانية، وسكنت في مواطنها القلبية ورجعت بعد قطع تلك المسالك إلى ما كانت عليه قبل ذلك، " كما بدأكم تعودون " وإلى ما كنتم عليه تؤوبون:
انزل مقامك فهو أول موطن * سافرت منه إلى جهات العالم ومنه قوله سانحة قد تهب من عالم القدس، نفحة من نفحات الانس، على قلوب أصحاب العلائق الدنية، والعوائق الدنيوية، فتقطر بذلك مشام أرواحهم، وتجري روح الحقيقة في رميم أشباحهم، فيدركون قبح الانغماس في الأدناس الجسمانية، ويذعنون بخساسة الانتكاس في مهاوي القيود الهيولانية، فيميلون إلى سلوك مسالك الرشاد، ويتنبهون من نوم الغفلة عن المبدء والمعاد.
لكن هذا التنبه سريع الزوال، وحي الاضمحلال، فيا ليته يبقى إلى حصول جذبة إلهية تميط عنهم أدناس عالم الزور، وتطهرهم من أرجاس دار الغرور.
ثم إنهم عند زوال تلك النفحة القدسية، وانقضاء هاتيك النسمة الانسية، يعودون إلى الانتكاس في تلك الأدناس، فيتأسفون على ذلك الحال الرفيع المنال، و ينادي لسان حالهم بهذا المقال، إن كانوا من أصحاب الكمال:
تيري زدى وزخم دل آسوده شد ازآن * هان أي طبيب خسته دلان مرهم دگر وقوله سانحة قد جرى ذكرى يوما من الأيام في بعض المجالس العالية، والمحافل السامية فبلغني أن بعض الحضار، ممن يدعى الوفاق وعادته النفاق، ويظهر الوداد ودأبه العناد، جرى في مضمار البغي والعدوان، وأطلق لسانه في الغيبة، والبهتان، ونسب إلى من العيوب ما لم تزل فيه، ونسي قوله تعالى " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ".