حتى يأتيني الموت، فقالوا: أيها الملك ومن هذا الرسول الذي قد أتاك ولم نره، وهو مقدمة الموت الذي لا نعرفه، قال: أما الرسول فهذا البياض يلوح بين السواد، وقد صاح في جميعه بالزوال فأجابوا وأذعنوا، وأما مقدمة الموت فالبلاء الذي هذا البياض طرقه.
قالوا: أيها الملك أفتدع مملكتك وتهمل رعيتك وكيف لا تخاف الاثم في تعطيل أمتك ألست تعلم أن أعظم الامر في استصلاح الناس وأن رأس الصلاح الطاعة للأمة والجماعة، فكيف لا تخاف من الاثم، وفي هلاك العامة من الاثم فوق الذي ترجو من الاجر في صلاح الخاصة، ألست تعلم أن أفضل العبادة العمل وأن أشد العمل السياسة، فإنك أيها الملك ما في يديك عدل على رعيتك، مستصلح لها بتدبيرك، فإن لك من الاجر بقدر ما استصلحت، ألست أيها الملك إذا خليت ما في يديك من صلاح أمتك فقد أردت فسادهم، وإذا أردت فسادهم فقد حملت من الاثم فيهم أعظم مما أنت تصيب من الاجر في خاصة يديك.
ألست أيها الملك قد علمت أن العلماء قالوا: من أتلف نفسا فقد استوجب لنفسه الفساد، ومن أصلحها فقد استوجب الصلاح لبدنه، وأي فساد أعظم من رفض هذه الرعية التي أنت إمامها والإقامة في هذه الأمة التي أنت نظامها حاشا لك أيها - الملك أن تخلع عنك لباس الملك الذي هو الوسيلة إلي شرف الدنيا والآخرة، قال: قد فهمت الذي ذكرتم وعقلت الذي وصفتم فإن كنت إنما أطلب الملك عليكم للعدل فيكم والاجر من الله تعالى ذكره في استصلاحكم بغير أعوان يرفدونني ووزراء يكفونني فما عسيت أن أبلغ بالوحدة فيكم ألستم جميعا نزعا إلى الدنيا وشهواتها ولذاتها ولا آمن أن أخلد إلى الدنيا التي أرجو أن أدعها وأرفضها، فإن فعلت ذلك أتاني الموت على غرة، فأنزلني عن سرير ملكي إلى بطن الأرض وكساني التراب بعد الديباج والمنسوج بالذهب ونفيس الجوهر، وضمني إلى الضيق بعد السعة، وألبسني الهوان بعد الكرامة، فأصبر فريدا بنفسي ليس معي أحد منكم في الوحدة، قد أخرجتموني من العمران، وأسلمتموني إلى الخراب،