نظرت إلى فيها (1) الذي لم يكن يملأه شئ فملأته قبضة من تراب، فإن أخبرتني أيها الملك أنها جمجمة مسكين احتججت عليك بأني قد وجدتها وسط قبور الملوك، ثم أجمع جماجم ملوك وجماجم مساكين فإن كان لجماجمكم عليها فضل، فهو كما قلت، وإن أخبرتني بأنها من جماجم الملوك أنبأتك أن ذلك الملك الذي كانت هذه جمجمته قد كان من بهاء الملك وجماله وعزته في مثل ما أنت فيه اليوم فحاشاك أيها الملك أن تصير إلى حال هذه الجمجمة فتوطأ بالاقدام وتخلط بالتراب ويأكلك الدود وتصبح بعد الكثرة قليلا وبعد العزة ذليلا، وتسعك حفرة طولها أدنى من أربعة أذرع، ويورث ملكك وينقطع خبرك ويفسد صنايعك ويهان من أكرمت ويكرم من أهنت ويستبشر أعداءك ويضل أعوانك ويحول التراب دونك، فإن دعوناك لم تسمع، وإن أكرمناك لم تقبل، وإن أهناك لم تغضب، فيصير بنوك يتامى ونساؤك أيامي (2) وأهلك يوشك أن يستبدلن أزواجا غيرك.
فلما سمع الملك ذلك فزع قلبه وانسكبت عيناه يبكى ويقول ويدعو بالويل، فلما رأي الرجل ذلك علم أن قوله قد استمكن من الملك، وقوله قد أنجع فيه زاده ذلك جرأة عليه وتكريرا لما قال، فقال له الملك: جزاك الله عني خيرا وجزا من حولي من العظماء شرا، لعمري لقد علمت ما أردت بمقالتك هذه وقد أبصرت أمري فسمع الناس خبره فتوجهوا أهل الفضل إليه وختم له بالخير وبقي عليه إلى أن فارق الدنيا.
قال ابن الملك: زدني من هذا المثل قال الحكيم: زعموا أن ملكا كان في أول الزمان وكان حريصا على أن يولد له وكان لا يدع شيئا مما يعالج به الناس أنفسهم إلا أتاه وصنعه، فلما طال ذلك عليه من أمره حملت امرأة له من نسائه فولدت له غلاما فلما نشأ وترعرع (3) خطا ذات يوم خطوة فقال: معادكم تجفون، ثم خطا أخرى فقال: تهرمون، ثم خطا الثالثة فقال: ثم تموتون، ثم عاد كهيئته