ثقل الماء وكثرته ما لا يقدر على صفته، مع ما فيه من الصواعق الصادعة، والبروق اللامعة والرعد والثلج والبرد والجليد مالا تبلغ الأوهام صفته، ولا تهتدي القلوب إلى كنه عجائبه، فيخرج مستقلا في الهواء يجتمع بعد تفرقه، ويلتحم بعد تزايله، تفرقه الرياح من الجهات كلها إلى حيث تسوقه بإذن الله ربها، يسفل مرة ويعلو أخرى متمسك بما فيه من الماء الكثير الذي إذا أزجاه صارت منه البحور، يمر على الأراضي الكثيرة والبلدان المتنائية لا تنقص منه نقطة حتى ينتهي إلى مالا يحصى من الفراسخ فيرسل ما فيه قطرة بعد قطرة، وسيلا بعد سيل، متتابع على رسله حتى ينقع البرك وتمتلئ الفجاج، وتعتلي الأودية بالسيول كأمثال الجبال غاصة بسيولها، مصمخة الآذان لدويها وهديرها، فتحيى بها الأرض الميتة فتصبح مخضرة بعد أن كانت مغبرة ومعيشة بعد أن كانت مجدبة، قد كسبت ألوانا من نبات عشب ناضرة زاهرة مزينة معاشا للناس والانعام. فإذا أفرغ الغمام ماءه أقلع وتفرق وذهب حيث لا يعاين ولا يدرى أين توارى، فأدت العين ذلك إلى القلب أن ذلك السحاب لو كان بغير مدبر وكان ما وصفت من تلقاء نفسه ما احتمل نصف ذلك من الثقل من الماء، وإن كان هو الذي يرسله لما احتمله ألفي فرسخ أو أكثر ولأرسله فيما هو أقرب من ذلك، ولما أرسله قطرة بعد قطرة بل كان يرسله إرسالا فكان يهدم البنيان، ويفسد النبات، ولما جاز إلى بلد وترك آخر دونه، فعرف القلب بالاعلام المنيرة الواضحة أن مدبر الأمور واحد، وأنه لو كان اثنين أو ثلاثة لكان في طول هذه الأزمنة والأبد والدهر اختلاف في التدبير، وتناقض في الأمور، ولتأخر بعض وتقدم بعض، ولكان تسفل بعض ما قد علا، ولعلا بعض ما قد سفل، ولطلع شئ وغاب فتأخر عن وقته أو تقدم ما قبله، فعرف القلب بذلك أن مدبر الأشياء ما غاب منها وما ظهر هو [الله] الأول خالق السماء وممسكها، وفارش الأرض وداحيها، وصانع ما بين ذلك مما عددنا وغير ذلك مما لم يحص.
وكذلك عاينت العين اختلاف الليل والنهار دائبين جديدين لا يبليان في طول كرهما، ولا يتغيران لكثرة اختلافهما، ولا ينقصان عن حالهما، النهار في نوره وضيائه والليل في سواده وظلمته، يلج أحدهما في الآخر حتى ينتهي كل واحد منهما إلى غاية