شأنه ولا طاقته أن يعلم، كعلم الغيب وما هو كائن، وبعض ما قد كان أيضا كعلم ما فوق السماء، وما تحت الأرض، وما في لجج البحار وأقطار العالم، وما في قلوب الناس، وما في الأرحام، وأشباه هذا مما حجب على الناس علمه. وقد ادعت طائفة من الناس هذه الأمور فأبطل دعواهم ما يبين من خطأهم في ما يقضون عليه ويحكمون به في ما ادعوا علمه. فانظر كيف أعطي الانسان علم جميع ما يحتاج إليه لدينه ودنياه، وحجب عنه ما سوى ذلك ليعرف قدره ونقصه! وكلا الامرين فيها صلاحه.
تأمل الآن يا مفضل ما ستر عن الانسان علمه من مدة حياته، فإنه لو عرف مقدار عمره وكان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش مع ترقب الموت وتوقعه لوقت قد عرفه بل كان يكون بمنزلة من قد فنى ماله أو قارب الفناء، فقد استشعر الفقر والوجل من فناء ماله وخوف الفقر. على أن الذي يدخل على الانسان من فناء العمر أعظم مما يدخل عليه من فناء المال، لان من يقل ماله يأمل أن يستخلف منه فيسكن إلى ذلك، ومن أيقن بفناء العمر استحكم عليه اليأس. وإن كان طويل العمر ثم عرف ذلك وثق بالبقاء، وانهمك في اللذات والمعاصي، وعمل على أنه يبلغ من ذلك شهوته ثم يتوب في آخر عمره، وهذا مذهب لا يرضاه الله من عباده ولا يقبله. ألا ترى لو أن عبدا لك عمل على أنه يسخطك سنة ويرضيك يوما أو شهرا لم تقبل ذلك منه، ولم يحل عندك محل العبد الصالح دون أن يضمر طاعتك ونصحك في كل الأمور في كل الأوقات على تصرف الحالات.
فإن قلت: أوليس قد يقيم الانسان على المعصية حينا ثم يتوب فتقبل توبته؟
قلنا: إن ذلك شئ يكون من الانسان لغلبة الشهوات له لو تركه مخالفتها من غير أن يقدرها في نفسه ويبني عليه أمره، فيصفح الله عنه ويتفضل عليه بالمغفرة. فأما من قدر أمره على أن يعصي ما بدا له ثم يتوب آخر ذلك فإنما يحاول خديعة من لا يخادع، بأن يتسلف التلذذ في العاجل، ويعد ويمني نفسه التوبة في الآجل، ولأنه لا يفي بما يعد من ذلك، فإن النزوع من الترفه والتلذذ ومعاناة التوبة ولا سيما عند الكبر وضعف البدن أمر صعب، ولا يؤمن على الانسان مع مدافعته بالتوبة أن