كذلك بل كانت متوقفة على علوم سابقة عليها - ولا محالة تنتهي إلى البديهيات قطعا للدور أو التسلسل - فهي علوم كسبية. فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس الانسانية هو أنه تعالى أعطى الحواس والقوى الداركة للصور الجزئية.
وعندي أن النفس قبل البدن موجودة عالمة بعلوم جمة هي التي ينبغي أن تسمى بالبديهيات، وإنما لا يظهر آثارها عليها، حتى إذا قوي وترقى ظهرت آثارها شيئا فشيئا وقد برهنا على هذه المعاني في كتبنا الحكمية، فالمراد بقوله " لا تعلمون شيئا " أنه لا يظهر أثر العلم عليهم، ثم إنه بتوسط الحواس الظاهرة والباطنة يكتسب سائر العلوم، ومعنى " لعلكم تشكرون " أن تصرفوا كل آلة في ما خلق لأجله، وليس الواو للترتيب حتى يلزم من عطف " جعل " على " أخرج " أن يكون جعل السمع والبصر والأفئدة متأخرا عن الاخراج من البطن.
" واختلاف ألسنتكم وألوانكم " قال الرازي: لما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ذكر ما هو من صفات الأنفس بالاختلاف الذي بين ألوان الانسان فإن واحدا منهم مع كثرة عددهم وصغر حجمهم، خدودهم وقدودهم لا تشتبه بغيرهم. والثاني اختلاف كلامهم فإن عربيين هما أخوان إذا تكلما بلغة واحدة يعرف أحدهما من الآخر، حتى أن من يكون محجوبا عنهما لا يبصر هما يقول: هنا صوت فلان. وفيه حكمة بالغة، وذلك لان الانسان يحتاج إلى التمييز بين الاشخاص ليعرف صاحب الحق من غيره، والعدو من الصديق، ليحتزر قبل وصول العدو إليه، وليقبل علي الصديق (1) قبل أن يفوته الاقبال عليه، وذلك قد يكون بالبصر فخلق اختلاف الصور، وقد يكون بالسمع فخلق اختلاف الأصوات وأما اللمس والشم والذوق فلا يفيد فائدة في معرفة العدو والصديق فلا يقع التمييز (2) ومن الناس من قال: إن المراد اختلاف اللغات كالعربية والفارسية والرومية وغيرها، والأول أصح - انتهى -.
وعلى الثاني المراد أنه علم كل صنف لغته، أو ألهمه وضعها وأقدره عليها.