فقد منعه من القبيح، فأجروا عليه لفظة المانع قهرا وقسرا، وأهل اللغة يتعارفون ذلك أيضا ويستعملونه، لأنهم يقولون فيمن أشار على غيره برأي فقبله منه مختارا واحتمى بذلك من ضرر يلحقه وسوء يناله: إنه حماه من ذلك الضرر ومنعه وعصمه منه، وإن كان ذلك على سبيل الاختيار.
فان قيل: أفتقولون فيمن لطف له بما اختار عنده الامتناع من فعل واحد قبيح:
إنه معصوم؟ قلنا: نقول ذلك مضافا ولا نطلقه، فنقول: إنه معصوم من كذا، ولا نطلق فيوهم أنه معصوم من جميع القبائح، ونطلق في الأنبياء والأئمة عليهم السلام العصمة بلا تقييد، لأنهم (1) لا يفعلون شيئا من القبائح بخلاف ما تقوله المعتزلة من نفي الكبائر عنهم دون الصغائر فإن قيل: فإذا كان تفسير العصمة ما ذكرتم فالأعصم الله جميع المكلفين وفعل بهم ما يختارون عنده الامتناع من القبائح؟
قلنا: كل من علم الله أن له لطفا يختار عنده الامتناع من القبائح فإنه لابد أن يفعل به وإن لم يكن نبيا ولا إماما، لان التكليف يقتضي فعل اللطف على ما دل عليه في مواضع كثيرة، غير أنه يكون في المكلفين (2) من ليس في المعلوم أن شيئا متى فعل اختار عنده الامتناع من القبيح، فيكون هذا المكلف لا عصمة له في المعلوم ولا لطف، وتكليف من لا لطف له يحسن ولا يقبح، وإنما القبيح منع اللطف فيمن له لطف مع ثبوت التكليف، فأما قول بعضهم: إن العصمة هي الشهادة من الله تعالى بالاستعصام فباطل، لان الشهادة لا تجعل الشئ على ما هو به، وإنما تتعلق به على ما هو على، لان الشهادة هي الخبر، والخبر عن كون الشئ على صفة لا يؤثر في كونه عليها، فتحتاج أولا إلى أن يتقدم لنا العلم بأن زيدا معصوم أو معتصم ونوضح عن معنى ذلك، ثم تكون الشهادة من بعد مطابقة لهذا العلم، وهذا بمنزلة من سأل عن حد المتحرك فقال: هو الشهادة بأنه متحرك، أو المعلوم أنه على هذه الصفة، وفي هذا البيان كفاية لمن تأمله. انتهى (3)