يقع منك الصبر وإن كان (1) إنما نفى القدرة على ما ظنه الجهال لكان العالم وهو في ذلك سواء، فلا معنى لاختصاصه بنفي الاستطاعة، والذي يدل على أنه إنما نفى عنه الصبر لا الاستطاعة قول موسى عليه السلام في جوابه: " ستجدني إن شاء الله صابرا " ولم يقل: ستجدني إن شاء الله مستطيعا، ومن حق الجواب أن يطابق الابتداء، فدل جوابه على أن الاستطاعة في الابتداء هي عبارة عن الفعل نفسه.
فأما قوله: " ولا أعصي لك أمرا " فهو أيضا مشروط بالمشية وليس بمطلق على ما ذكر في السؤال، فكأنه قال: ستجدني صابرا ولا أعصي لك أمرا إن شاء الله، وإنما قدم الشرط على الامرين جميعا، وهذا ظاهر في الكلام. فأما قوله: " لقد جئت شيئا إمرا " فقد قيل: إنه أراد شيئا عجبا، (2) وقيل: إنه أراد شيئا منكرا، وقيل: إن الامر أيضا هو الداهية فكأنه قال: جئت داهية وقد ذهب بعض أهل اللغة إلى أن الامر مشتق من الكثرة من أمر القوم: إذا كثروا، وجعل عبارة عما كثر عجبه، وإذا حملت هذه اللفظة على العجب فلا سؤال فيها، وإن حملت على المنكر كان الجواب عنها وعن قوله: " لقد جئت شيئا نكرا " واحدا، وفي ذلك وجوه: منها أن ظاهر ما أتيته المنكر ومن يشاهده ينكره قبل أن يعرف علته.
ومنها: أن يكون حذف الشرط فكأنه أراد: إن كنت قتلته ظالما لقد جئت شيئا نكرا.
ومنها أنه أراد أنك أتيت أمرا بديعا غريبا، فإنهم يقولون فيما يستغربونه و يجهلون علته: إنه نكر ومنكر، وليس يمكن أن يدفع خروج الكلام مخرج الاستفهام والتقرير دون القطع، ألا ترى إلى قوله: " أخرقتها لتغرق أهلها " وإلى قوله: " أقتلت نفسا زكية بغير نفس " ومعلوم أنه إن كان قصد بخرق السفينة إلى التغريق فقد أتى منكرا، وكذلك إن كان قتل النفس على سبيل الظلم.
فأما قوله: " لا تؤاخذني بما نسيت " فقد ذكر فيه وجوه ثلاثة.