انهزم فرعون فيمن انهزم منخوبا (1) مرعوبا عازبا عقله، (2) وقد استطلق بطنه في يومه ذلك عن أربعمائة جلسة! (3) ثم بعد ذلك إلى أربعين مرة في اليوم والليلة على الدوام إلى أن هلك! فلما انهزم الناس وعاين السحرة ما عاينوا وقالوا: لو كان سحرا لما غلبنا، ولما خفي علينا أمره ولئن كان سحرا فأين حبالنا وعصينا؟ فألقوا سجدا وقالوا: " آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون " وكان فيهم اثنان وسبعون شيخا قد انحنت ظهورهم من الكبر، وكانوا علماء السحرة، وكان رئيس جماعتهم أربعة نفر: (4) سابور وعادور و حطحط (5) ومصفا، وهم الذين آمنوا حين رأوا ما رأوا من سلطان الله تعالى، ثم آمنت السحرة كلهم، فلما رأى فرعون ذلك أسف وقال لهم متجلدا: آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى، فقالوا: " لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض " إلى قوله تعالى: " والله خير وأبقى " فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم على جذوع النخل، وهو أول من فعل ذلك، فأصبحوا سحرة كفرة وأمسوا شهداء بررة، ورجع فرعون مغلوبا (6) معلولا، ثم أبى إلا إقامة على الكفر و التمادي فيه، فتابع الله تعالى عليه بالآيات وأخذه وقومه بالسنين إلى أن أهلكهم، وخرج موسى عليه السلام راجعا إلى قومه والعصا على حالها حية تتبعه وتبصبص حوله وتلوذ به كما يلوذ الكلب الألوف بصاحبه، والناس ينظرون إليها ينخزلون ويتضاغطون حتى دخل موسى عسكر بني إسرائيل وأخذ برأسها فإذا هي عصاه كما كانت أول مرة، وشتت الله على فرعون أمره، ولم يجد على موسى سبيلا، فاعتزل موسى في مدينته ولحق بقومه
(١٥٠)