الثاني أني أكون عالما بأني " أنا " حال ما أكون غافلا عن هذه الأعضاء الظاهرة فما دل عليه قولنا: " أنا " مغاير لهذه الأعضاء والابعاض، ثم اختلفوا عند ذلك في أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله: " أنا " أي شئ هو؟ والأقوال فيها كثيرة، إلا أن أشدها تحصيلا وجهان: أحدهما: أنها أجزاء جسمانية سارية في هذا الهيكل سريان النار في الفحم، والدهن في السمسم، وماء الورد في الورد، والقائلون بهذا القول فريقان: أحدهما الذين اعتقدوا تماثل الأجسام فقالوا: إن تلك الأجسام متماثلة لسائر الاجزاء التي منها يؤلف هذا الهيكل، إلا أن القادر المختار سبحانه يبقي بعض الاجزاء من أول العمر إلى آخره فتلك الأجزاء هي التي يشير إليها كل أحد بأنا، ثم إن تلك الأجزاء حية بحياة يخلقها الله فيها، فإذا أزال الحياة عنها ماتت، وهذا قول أكثر المتكلمين.
وثانيهما: أن الذين اعتقدوا اختلاف الأجسام زعموا أن الأجسام التي هي باقية من أول العمر إلى آخره أجسام مخالفة بالماهية للأجسام التي منها ائتلف هذا الهيكل وتلك الأجسام حية لذاتها، مدركة لذاتها، نورانية لذاتها، فإذا خالطت هذا البدن وصارت سارية في هذا الهيكل سريان النار في الفحم صار هذا الهيكل مستنيرا بنور ذلك الروح، متحركا بتحريكه، ثم إن هذا الهيكل أبدا في الذوبان والتحليل إلا أن تلك الأجزاء باقية بحالها، وإنما لا يعرض لها التحليل لأنها مخالفة بالماهية لهذه الأجسام، فإذا فسد هذا القالب انفصلت تلك الأجسام اللطيفة النورانية إلى عالم السماوات والقدس والطهارة إن كانت من جملة السعداء، أو إلى الجحيم وعالم الآفات إن كانت من جملة الأشقياء.
والقول الثاني: إن الذي يشير إليه كل أحد بقوله: " أنا " موجود ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز، وإنه ليس داخل العالم ولا خارجا عنه، ولا يلزم من كونه كذلك أن يكون مثلا لله تعالى لان الاشتراك في السلوب لا يوجب الاشتراك في الماهية، و قالوا: هذه الأرواح بعد مفارقة الأبدان تتألم وتلتذ إلى أن يردها الله تعالى إلى الأبدان يوم القيامة، فهناك يحصل الالتذاذ والتألم للأبدان، فهذا قول قال به عالم من الناس، قالوا: وإن لم يقم عليه برهان قاهر على القول به ولكن لم يقم دليل على