وحده كيف كانت تكون حاله؟ وكم من خلل كان يدخل عليه في أموره ومعاشه وتجاربه إذا لم يحفظ ما له وعليه، وما أخذه وما أعطى، وما رأى وما سمع، وما قال وما قيل له، ولم يذكر من أحسن إليه ممن أساء به، وما نفعه مما ضره، ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى، ولا يحفظ علما ولو درسه عمره، ولا يعتقد دينا، ولا ينتفع بتجربة، ولا يستطيع أن يعتبر شيئا على ما مضى، بل كان حقيقا أن ينسلخ من الانسانية أصلا فانظر إلى النعمة على الانسان في هذه الخلال، وكيف موقع الواحدة منها دون الجميع؟ وأعظم من النعمة على الانسان في الحفظ النعمة في النسيان، فإنه لولا النسيان لما سلا أحد عن مصيبة، ولا انقضت له حسرة، ولا مات له حقد، ولا استمتع بشئ من متاع الدنيا مع تذكر الآفات، ولا رجا غفلة من سلطان، ولا فترة من حاسد، أفلا ترى كيف جعل في الانسان الحفظ والنسيان، وهما مختلفان متضادان، وجعل له في كل منهما ضرب من المصلحة؟ وما عسى أن يقول الذين قسموا الأشياء بين خالقين متضادين في هذه الأشياء المتضادة المتبائنة وقد تراها تجتمع على ما فيه الصلاح والمنفعة؟.
بيان: دون الجميع أي فضلا عن الجميع. ويقال: سلا عنه أي نسيه. وقد مضى منا ما يمكن أن يستعمل في فهم آخر الكلام في موضعين فتذكر.
انظر يا مفضل إلى ما خص به الانسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق، الجليل قدره، العظيم غناؤه، أعني الحياء فلولاه لم يقر ضيف، ولم يوف بالعدات، ولم تقض الحوائج، ولم يتحر الجميل، (1) ولم يتنكب القبيح في شئ من الأشياء، حتى أن كثيرا من الأمور المفترضة أيضا إنما يفعل للحياء، فإن من الناس من لولا الحياء لم يرع حق والديه، ولم يصل ذا رحم، ولم يؤد أمانة، ولم يعف عن فاحشة (2) أفلا ترى كيف وفي للانسان جميع الخلال التي فيها صلاحه وتمام أمره؟.
بيان: إقراء الضيف: ضيافتهم وإكرامهم. والتنكب: التجنب. ووفي على بناء المجهول من التوفية وهي إعطاء الشئ وافيا.