أقول: أشار عليه السلام بذلك إلى أقوى براهين التوحيد، (1) وهو أن ايتلاف أجزاء العالم واحتياج بعضها إلى بعض وانتظام بعضها ببعض، يدل على وحدة مدبرها كما أن ارتباط أجزاء الشخص بعضها ببعض وانتظام بعض أعضائه مع بعض يدل على وحدة مدبره.
وقد قيل في تطبيق العالم الكبير على العالم الصغير لطائف لا يسع المقام ذكرها، وربما يستدل عليه أيضا بما قد تقرر من أن المتلازمين إما أن يكون أحدهما علة للآخر، أو هما معلولا علة ثالثة، وسيأتي الكلام فيه في باب التوحيد.
نبتدئ يا مفضل بذكر خلق الانسان فاعتبر به، فأول ذلك ما يدبر به الجنين في الرحم، وهو محجوب في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ولا دفع أذى، ولا استجلاب منفعة ولا دفع منصرة، فإنه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذوا الماء النبات فلا يزال ذلك غذاؤه حتى إذا كمل خلقه واستحكم بدنه، وقوي أديمه على مباشرة الهواء، وبصره على ملاقاة الضياء هاج الطلق بأمه فأزعجه أشد إزعاج، وأعنفه حتى يولد، وإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم أمه إلى ثدييها فانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء، وهو أشد موافقة للمولود من الدم فيوافيه في وقت حاجته إليه فحين يولد قد تلمظ وحرك شفتيه طلبا للرضاع فهو يجد ثديي أمه كالإداوتين المعلقتين لحاجته إليه، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن، رقيق الأمعاء، لين الأعضاء، حتى إذا تحرك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتد ويقوي بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس، ليمضغ به الطعام فيلين عليه، ويسهل له إساغته فلا يزال كذلك حتى يدرك فإذا أدرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر وعز الرجل الذي يخرج به من حد الصبا وشبه النساء، وإن كانت أنثى يبقى وجهها نقيا من الشعر، لتبقى لها البهجة والنضارة التي تحرك الرجال لما فيه دوام النسل وبقاؤه.