فأطرق هشام طويلا ثم رفع رأسه فقال: سل حاجتك.
فقال: خلفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي.
فقال: قد آمن الله وحشتهم برجوعك إليهم ولا تقم أكثر من يومك. فاعتنقه أبي ودعا له وودعه، وفعلت أنا كفعل أبي، ثم نهض ونهضت معه.
وخرجنا إلى بابه وإذا ميدان ببابه، وفي آخر الميدان أناس قعود عدد كثير، قال أبي: من هؤلاء؟ قال الحجاب: هؤلاء القسيسون والرهبان، وهذا عالم لهم، يقعد لهم في كل سنة يوما واحدا يستفتونه فيفتيهم.
فلف أبي عند ذلك رأسه بفاضل ردائه، وفعلت أنا مثل فعل أبي، فأقبل نحوهم حتى قعد عندهم (1)، وقعدت وراء أبي، ورفع ذلك الخبر إلى هشام، فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي، فأقبل وأقبل عدد من المسلمين فأحاطوا بنا، وأقبل عالم النصارى وقد شد حاجبيه بحريرة (2) صفراء حتى توسطنا، فقام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلمين عليه، فجاء إلى صدر المجلس فقعد فيه، وأحاط به أصحابه، وأبي وأنا بينهم، فأدار نظره ثم قال لأبي: أمنا أم من هذه الأمة المرحومة؟
فقال أبي: بل من هذه الأمة المرحومة.
فقال: أمن علمائها أم من جهالها؟ فقال له أبي: لست من جهالها؟ فاضطرب اضطرابا شديدا، ثم قال له: أسألك. فقال له أبي: سل.
فقال: من أين ادعيتم أن أهل الجنة يأكلون (3) ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون؟ وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لا يجهل؟ فقال له أبي: دليل ما ندعي من شاهد لا يجهل (4) الجنين في بطن أمه يطعم ولا يحدث.
قال: فاضطرب النصراني اضطرابا شديدا ثم قال: كلا، زعمت أنك لست من علمائها! فقال له أبي: ولا من جهالها، وأصحاب هشام يسمعون ذلك.