الامور الممكنة والأشياء الكلية والجزئية كلها مسببة عن السبب الأول جل اسمه، الذي يتسبب عنه كل موجود ويتشعب عنه كل عين وأثر وينتشر منه كل علم وخبر.
وما من شيء إلا وينتهي في سلسلة الحاجة إليه وإلى الأوائل الصادرة عنه، وإذا رتبت الأسباب والمسببات انتهت أوائلها إلى مسبب الأسباب وأنتهت أواخرها إلى الجزئيات الشخصية، فكل كلي وجزئي صادر عن الأول جل اسمه، وقد تحقق في العلوم الحقيقية بالبراهين اليقينية أن العلم بسبب الشيء يوجب العلم بذلك الشيء علما ضروريا، فمن عرف ذاته بالأوصاف الكمالية والنعوت الجلالية وعرف الأوائل والغايات من العقول القادسة ومنها الثواني والمدبرات النفسانية والمحركات السماوية للأشواق الإلهية والأغراض الكلية بالعبادات الدائمة والنسك المستمرة من غير لغوب ولا فتور والأجرام العلوية المؤثرة في العالم السفلي بأمر الخالق يحيط علما بجميع الامور والأحوال علما بريئا عن الشك والتغير والغلط فيعلم من الأوائل الثواني ومن الكليات الجزئيات المترتبة عليها، وهذا طريقة الصديقين في معرفة الأشياء المشار إليها في قوله تعالى (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) فإنهم عرفوا الله أولا وعرفوا صفاته ومن صفاته أوائل أفعاله ومن الأوائل الثواني وهكذا حتى علموا الكليات ومن الكليات الجزئيات ومن البسائط المركبات وعلموا حقيقة الإنسان وأحوال النفوس الإنسانية وما يزكيها وما يكملها ويسعدها ويصعدها إلى عالم القدس والربوبية ومنزل الأبرار والمقربين وما يدسها ويرديها ويشقيها يهويها إلى أسفل السافلين ومنزل الفجار والشياطين علما ثابتا غير قابل للتغير والشك ولا محتملا التطرق الريب والوهم، وهذه حال الأنبياء والأولياء وكل علم لم يحصل من هذا الطريق بل حصل من تقليد أو سماع أو أثر أو ظن، فليس بالنظر إليه علم بل ظن «والظن لا يغني من الحق شيئا».