ويجوز إرادة الثاني على أن يكون الباء للتعدية أو للسببية أيضا يعني أكمل للناس حججه من الأنبياء والأوصياء المرضيين بعقولهم الصافية وأذهانهم الثاقبة أو بسبب أن منحهم عقولا زكية عارية عن شوائب النقصان مدركة لشواهد الربوبية بحقايق الإيمان (ونصر النبيين بالبيان) البيان الفصاحة لأن نبي كل قوم أفصح منهم لسانا ويجوز أن يراد به ما يتبين به الشئ من الكلام والآيات وغيرهما يعني نصرهم بالكلمات الفائقة والمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة الدالة على ثبوت نبوتهم ليكمل بهم أحوال عباده وينور بهدايتهم أطراف بلاده ويخرج الناس من ظلمة الجهالة والغواية وينجيهم من حيرة الندامة والضلالة (ودلهم على) طريق (ربوبيته) عود ضمير الجمع إلى «النبيين» قريب وإلى «الناس» بعيد (بالأدلة) الدالة على وجود ذاته، والآيات الكاشفة عن جمال صفاته، وتلك الأدلة من آثاره العجيبة وأفعاله الغريبة; لأن معرفة الشئ إما بمشاهدته وحضوره عند العارف كمعرفة هذا الرجل وهذا الجبل، وإما بمعرفة علته وهذا الطريق يقال له برها لمي، وإما بمعرفة معلوله ويقال له: برهان إني. ولا طريق للمعرفة غير هذه الثلاثة لأن ما لا يكون نفس الشئ ولا علته ولا معلوله لا تعلق له بذلك الشئ فلا دخل له في معرفته، ثم الطريق الأول لا يتيسر الوصول إليه إلا للمقربين المخصوصين بزيادة اللطف والتوفيق وهم الذين أخذت أيديهم العناية الأزلية وأزالت عنهم الهويات البشرية وقطعت عنهم العوائق البدنية وأنزلتهم في أعلى منازل القدس وأرفع مقامات الانس، فصاروا بحيث يشاهدونه بلا حجاب ويكالمونه بلا سؤال ولا جواب، كما هو وصف نبينا وأوصيائه (عليهم السلام). والطريق الثاني لا أثر له في ساحة قدسه جل شأنه لأنه بسيط صرف لا تركيب فيه أصلا لا ذهنا ولاخارجا، واجب لذاته مبدء لجميع ما سواه وإليه ينتهي الآثار كلها فلا فاعل له خارجا عن ذاته ولا سبب له داخلا في ذاته تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، والطريق الثالث يشترك فيه الكل فلذا خصه بالذكر وهو طريق يسلكه كل من له عقل سليم وطبع مستقيم ولكن سلوكهم ووصولهم وإيمانهم وإيقانهم على حسب تفاوت مراتب عقولهم أما ترى أنك تستدل بملكوت السماوات وحركات الكواكب وبزوغها وافولها على وجود صانعها ومدبرها كما استدل بها خليل الرحمن وإن كان استدلاله بها للتعليم وقد حصل لك علم ضعيف شبيه بالجهل حتى لو وقعت في أدنى بلية تلوذ بكل من زعمت أنه ينجيك منها، وحصل له علم ثابت ويقين جازم حتى قال له الروح الأمين حين رمي بالمنجنيق وكان في الهواء مايلا إلى النار: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا فإعراضه عنه في تلك الحالة والتجاؤه إلى ربه ليس إلا لأنه رأى أن كل ما سواه محتاج إليه خاشع لديه خاضع بين يديه مقهور لعزته مغلوب لقدرته بل لم ير موجودا سواه وملجأ إلا أياه، ولو عاد ضمير الجمع في «دلهم» إلى
(٩٤)