إعانة الطالبين - البكري الدمياطي - ج ٤ - الصفحة ١٧٤
موضع واحد، فإن شربه يفر منه مفرة لم يعد إليه أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه وسلب من عقله شيئا لا يرده عليه إلى يوم القيامة.
واعلم: أن في شربها عشر خصال مذمومة تقع له في الدنيا: أولها إذا شربها يصير بمنزلة المجنون ويصير مضحكة للصبيان ومذموما عند العقلاء، وإلى هذا أشار ابن الوردي بقوله:
واهجر الخمرة إن كنت فتى كيف يسعى في جنون من عقل؟
ثانيها: أنها مذهبة للعقل متلفة للمال. ثالثها: أن شربها سبب للعداوة بين الاخوان والأصدقاء. رابعها: أن شربها يمنع من ذكر الله ومن الصلاة. وخامسها: أن شربها يحمل على الزنا وعلى طلاق امرأته وهو لا يدري. سادسها: أنها مفتاح كل شر. سابعها أن شربها يؤذي الحفظة الكرام بالرائحة الكريهة. ثامنها: أن شاربها أوجب على نفسه أربعين جلدة، فإن لم يضرب في الدنيا ضرب في الآخرة بسياط من نار على رؤوس الاشهاد والناس ينظرون إليه والآباء والأصدقاء. تاسعها: أنه أغلق باب السماء على نفسه فلا ترفع حسناته ولا دعاؤه أربعين يوما. عاشرها: أنه مخاطر بنفسه لأنه يخاف عليه أن ينزع الايمان منه عند موته. وأما العقوبات التي في الآخرة فلا تحصى: كشرب الحميم، والزقوم، وفوت الثواب، وغير ذلك.
واعلم: أن الخمرة كان شربها جائزا في صدر الاسلام، ثم حصل التحريم بعد ذلك في السنة الثالثة من الهجرة بعد أحد، وفي تفسير البغوي ما نصه: وجملة القول على تحريم الخمر أن الله أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكة وهي: * (من ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) * فكان المسلمون يشربونها، وهي لهم حلال يومئذ. ثم إن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وجماعة من الأنصار أتوا رسول الله (ص) فقالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال، فأنزل الله تعالى: * (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) * إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا أناسا من أصحاب النبي (ص) وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا وحضرت صلاة المغرب وتقدم بعضهم ليصلي فقرأ: * (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون) * بحذف لا النافية، فأنزل الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) * فحرم السكر في أوقات الصلاة. فلما نزلت هذه الآية تركها قوم وقالوا لا خير في شئ يحول بيننا وبين الصلاة، وتركها قوم في أوقات الصلاة وشربوها في غير أوقاتها حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر ويشرب بعد صلاة الصبح فيصحو إذا جاء وقت الظهر. واتخذ عتبان بن مالك طعاما ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، ثم إنهم افتخروا عند عتبان وانتسبوا وتناشدوا الاشعار، فأنشد سعد قصيدة فيها هجو للأنصار وفخر لقومه، فأخر رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد فشجه شجة موضحة، فانطلق سعد إلى رسول الله (ص) وشكا إليه الأنصار فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فأنزل الله تعالى تحريم الخمر في سورة المائدة في قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر) * إلى قوله * (فهل أنتم منتهون) * وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر انتهينا يا رب. اه‍. (قوله: ويجلد) أي بسوط أو عصا معتدلة أو نعل أو أطراف ثياب لما روى الشيخان أنه (ص) كان يضرب بالجريد والنعال وفي البخاري عن أبي هريرة أنه أتى النبي (ص) بسكران فأمر بضربه: فمنا من ضرب بيده، ومنا من ضرب بنعله، ومنا من ضرب بثوبه. ويفرق الضارب الضرب على الأعضاء فلا يجمعه في موضع واحد لأنه قد يؤدي إلى الهلاك، ويجتنب المقاتل، وهي المواضع التي يسرع الضرب فيها إلى القتل: كالقلب ونقرة النحر والفرج، ويجتنب الوجه أيضا لقوله (ص): إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه ولأنه مجمع

(1) سورة النحل، الآية: 67.
(2) سورة البقرة، الآية: 219.
(3) سورة الكافرون، الآية: 2.
(4) سورة النساء، الآية: 43.
(١٧٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 169 170 171 172 173 174 175 176 177 178 179 ... » »»
الفهرست