شرح فصوص الحكم - محمد داوود قيصري رومي - الصفحة ١٠٤٥
(الشئ). أي، الرحمة من الله تعالى تنال على طريقين: طريق الوجوب. أي، على طريق الذي أوجب الحق على نفسه أن يرحم عباده إذا أتوا به في مقابلة ما قيدهم به وكلفهم من العلم والعمل. كما قال: (فسأكتبها) أي، أفرضها (للذين يتقون ويؤتون الزكاة). لا أن العبد بحسب عمله يوجب على الله أن يرحمه، بل ذلك الإيجاب على سبيل الفضل والمنة أيضا منه على عباده.
(والطريق الآخر الذي تنال به هذه الرحمة على طريق الامتنان الإلهي الذي لا يقترن به عمل، وهو قوله: (ورحمتي وسعت كل شئ). ومنه قيل: (ليغفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر). ومنها قوله: (إعمل ما شئت فقد غفرت لك). فاعلم ذلك.) (الرحمة الامتنانية) قد تكون عامة، وهو الرحمة الذاتية الشاملة لجميع العباد، كقوله تعالى: (رحمتي وسعت كل شئ). وقد تكون خاصة، كما قيل:
(ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر). في حق نبينا، صلى الله عليه وسلم، وكما قال لبعض عباده: (إعمل ما شئت، فقد غفرت لك) (16) فلا يتوهم أنها شاملة لجميع الأشياء مطلقا. والله الرحيم المنان ومنه الفضل والإحسان.

(١٦) - نقل الشارح، عبد الرحمن جامى، في آخر (فص الزكرياوية) عن الشيخ، بناء على ما في الفتوحات: أنه ثبت في الأخبار الإلهية وصح أن العبد يذنب الذنب ويعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، فيقول الله له ثلاث مرات، أو رابع مرة: (إعمل ما شئت، فقد غفرت لك...). قال الشارح الجامي: (وهذا العلم من قبيل الرحمة الامتنانية.
واعلم أن الشيخ الأكبر كثيرا ما ينقل الخبر الضعيف ويقول: (في الخبر الصحيح) أو يقول: (ثبت في الأخبار الإلهية وصح أن العبد...). وما نقله بقوله: (قوله تعالى:
إعمل ما شئت، فقد غفرت لك). هذا الحديث ورد في حق أهل (بدر)، كما نقله السيوطي في الجامع الصغير. وفي هذا الجامع: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:
(كما لا ينفع مع الشرك شئ، كذلك لا يضر مع الإيمان شئ) وورد أيضا: (كما لا يضر مع الإيمان ذنب، لا ينفع مع الشرك عمل) أقول: ولعل المراد من (الإيمان) ما يملأ القلب نورا بحيث صار النفس تحت شعاع الإيمان، ونور قلب صاحب الإيمان بحيث يمشى في الظلمات بنور نفسه. وهذا الإيمان لا يضر معه شئ. وقد نقل الزمخشري في تفسيره:
(حب على حسنة لا تضر معها السيئة. وبغضه سيئة لا تنفع مع حسنة). لأن القلب المؤمن إذا تنور بنور الولاية الحضرة العلوية، عليه السلام، بحيث اتصل نفسه وروحه بالنفس الولوية ينجبر نقصه، لأن انجبار الناقص بالكامل من إحدى مظاهر الشفاعة. واعلم، أن الرواية عن طريق مشايخنا الإمامية عن أهل بيت النبوة، عليهم السلام، في تأثير الإعتقاد بالتوحيد وفي أن الموحد لا يخلد في النار أو النار لا يؤثر في باطنه وإنما يؤثر في ظاهره، كثيرة وبعضها منقولة عن طرق إخواننا العامة. في توحيد الصدوق، باب (ثواب الموحدين)، ج ٥، نقل المؤلف، رضى الله عنه، بإسناده عن أبى عبد الله، جعفر بن محمد، عليهما السلام، عن جده على، عليه السلام، عن رسول الله، صلى الله عليه وآله: (من مات ولا يشرك بالله شيئا، أحسن أو أساء دخل الجنة). وروى الصدوق (ج ٧) بإسناده عن الصادق، عليه السلام: (إن الله حرم أجساد الموحدين على النار). روى (ج ٩) بإسناده عن النبي، عليه السلام: (كل جبار عنيد من أبى أن يقول لا إله إلا الله). روى من العامة والخاصة أحاديث متعددة، مضمونها: قال الله، عز من قائل: (لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي). أو: (من جاء منكم بشهادة أن لا إله إلا الله بالإخلاص، دخل حصني...). وأما ما نقله عن السورة المباركة (الفتح): (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك...). يحب أن يعلم أن في معنى قوله: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك) أقوالا مختلفة. ومن الناس من جوز المعاصي الصغيرة على الأنبياء. ومنهم من جوز الخطاء في الوحي، أي، في الرؤيا المنامية، وقال: (وخطاء الخيال في عالم الرؤيا المنامية جائز، بل واقع في حق الأنبياء، ولكنهم محفوظون من دوام الخطاء والتباسه عليهم في اليقظة) وهو صدق آن رؤيا الأنبياء وحى منه تعالى لهم بملك الرؤيا ينزل على قلوبهم بأمر الله، فيكشف عن ذلك خيالهم بعين ما رأوا، وبمثله ومناسبه. وجعلوا من هذا القبيل رؤيا إبراهيم الخليل، عليه السلام، حيث قال لابنه. (إني أرى في المنام إني أذبحك). وقد ذكرنا هذه المسألة على سبيل التفصيل في محله. والقائل بجواز الخطاء ليس من أصحابنا الإمامية الجعفرية، أنار الله برهانهم. والعجب من بعض شراح الفصوص، فضل في هذا المقام والسر في ظهور هذه العقيدة من العارف، التأثر من الأشعرية حيث جعلوا جواز الخطاء أو المعاصي الصغيرة عن الأنبياء مذهب سلف الصالح قد وفيهم من ظن الاجتهاد في حق بعض الأنبياء في الفروع، كما في قصة تأبير النخل، وقضية داوود النبي، عليه السلام، في (الفص الداودي). ونحن معاشر الشيعة نعتقد أن الأنبياء، لا سيما أولوا العزم منهم والأقطاب المحمديين، أي الأئمة من العترة، عليهم السلام، يخبرون عن الأحكام الواقعية. والاجتهاد في الأحكام الشرعية يختص بأهل الظاهر من الفقهاء والمجتهدين بعد غروب شمس النبوة، أو بعد غيبة خاتم الأولياء، محمد بن الحسن العسكري، المهدى الموعود، عليهما السلام، حيث أن الوارث للعلوم والأحوال والمقاما ت وشؤون الحضرة الختمية المحمدية، صلوات الله عليه وآله، ويأخذون الأحكام من المأخذ الذي كان يأخذ خاتم الأنبياء. ولذا قال الشارح في الرسالة التي ألفها في التوحيد والنبوة والولاية (ط 1357 ش، انجمن فلسفه، ص 24) بعد ذكر وجوب متابعة علماء الظاهر في الأحكام الشرعية:
(لذلك لا بد أن يرفع المهدى، عليه السلام، الخلافات بين أهل الظاهر ويجعل الأحكام المختلفة في مسألة واحدة حكما واحدا، وهو ما في علم الله سبحانه، ويصير المذاهب في عصره مذهبا واحدا، لشهوده الأمر على ما هي عليه في علم الله لارتفاع الحجاب عن عيني جسمه وقلبه، كما كان في زمان رسول الله). ويعلم أن سبب الاختلاف في الأحكام في عصرنا، أي عصر غيبة صاحب الأمر، لابتلائه بأهل الخلاف، وعند قيامه لا يبقى خلافا. ولذا (كما قال الشيخ الأكبر): (كان أكثر أعدائه أهل الظاهر الذين سموا نفوسهم خلفاء رسول الله كما هو المرسوم في العامة أو نائب خليفة الله المهدى عليه السلام، كما ترى...). وأما مسألة الفتوح الحاصلة لنبينا، صلوات الله عليه، وبيان قوله تعالى:
(١٠٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 1035 1041 1042 1043 1044 1045 1045 1051 1052 1053 1054 ... » »»