شرح فصوص الحكم - محمد داوود قيصري رومي - الصفحة ٩٧٩
(وإذا علمت أن الله راعى هذه النشأة) وراعى (إقامتها، فأنت أولى بمراعاتها، إذ لك بذلك السعادة) أي، لأن مراعاتها توجب لك السعادة.
(فإنه ما دام الإنسان حيا، يرجى له تحصيل صفة الكمال الذي خلق له.) فإذا راعيته وأعنته ليصل إلى كماله، تجازى بأحسن الجزاء.
(ومن سعى في هدمه، فقد سعى في منع وصوله لما خلق له.) فيجازى من الحق بمثله، فيمنع من وصوله إلى كمال نفسه، لأن الوجود مكاف.
(وما أحسن ما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربون رقابكم؟ ذكر الله).) أي، ذكر الله أفضل من الغزو في سبيل الله ومن الشهادة فيه، لأنه موجب لهدم بنيان الرب من الطرفين، وإن كان فيه إعلاء كلمة الله ورفع أعلام الله و ثواب الشهادة، لكن كل ذلك لا يقابل لما في هدم بنيان الله من الشر.
(وذلك أنه لا يعلم قدر هذه النشأة الإنسانية إلا من ذكر الله الذكر المطلوب منه. فإنه تعالى جليس من ذكره. والجليس مشهود للذاكر. ومتى لم يشاهد هذا الذاكر الحق الذي هو جليسه، فليس بذاكر.) ذلك إشارة إلى كون الذكر أفضل من الغزو والشهادة في سبيل الله. وإنما كان كذلك لأن ثوابهما حصول الجنة، والذاكر جليس الحق تعالى - كما قال: (أنا جليس من ذكرني). - والجليس لا بد أن يكون مشهودا، فالحق مشهود الذاكر، وشهود الحق أفضل من حصول الجنة.
لذلك كانت الرؤية بعد حصول الجنة وكمال تلك النعمة.
وقوله: (أنه لا يعلم قدر هذه النشأة... إلا من ذكر الله الذكر المطلوب) إعتراض إنما جاء به تنبيها على حقيقة الذكر ومراتبه، ليعلم متى يكون الحق جليسا للذاكر.
والمراد بالذكر المطلوب من العبد أن يذكر الله باللسان ويكون حاضرا بقلبه.
وروحه وجميع قواه بحيث يكون بالكلية متوجها إلى ربه، فينتفى الخواطر وينقطع أحاديث النفس عنه. ثم، إذا داوم عليه، ينتقل الذكر من لسانه إلى قلبه، ولا يزال يذكر بذلك حتى يتجلى له الحق من وراء أستار غيوبه، فينور باطن العبد
(٩٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 974 975 976 977 978 979 980 981 982 983 984 ... » »»