شرح فصوص الحكم - محمد داوود قيصري رومي - الصفحة ٥١٣
كان السمع والبصر راجعين إلى الحق في مقام الجمع، قال: (وأفرد) ولم يقل: و وحد. تنبيها على أن فردانيته لا يكون إلا في عين الكثرة، لأن الفردية يشتمل عليها ضرورة لكونه عددا، والوحدانية تقابلها (17) (فلو أن نوحا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه، (18) فدعاهم جهارا، ثم

(17) - لا يخفى أن الوحدانية لم تكن مقابلها تقابل العزلي، بل هي في عين كونها خارجة عنها سارية فيها ومعها معية قيومية، كما نقل زبور آل محمد، صلى الله عليه وآله: (لك يا إلهي وحدانية العدد). فالتعبير ب‍ (أفرد) دون (وحد) لم يكن لما ذكره الشارح كما هو الظاهر، بل يمكن أن يكون الوجه في التعبير بأفرد، بصيغة إفعال، دون فرد ووحد، بصيغة تفعيل، أن نظره إلى الوحدة الصرفة الحاصلة للذات المقدسة في مقام غيبه، لا التوحيد الذي هو عبارة عن إرجاع الكثرات إلى الوحدة، وإفناء التعينات في بحر الوجود المطلق. والتوحيد و التفريد يفيد ان المعنى الثاني بخلاف الإفراد، تدبر تجد. (الإمام الخميني مد ظله) (18) - قال شيخنا العارف الكامل، الشاه آبادي، مد ظله العالي: فلو أن نوحا جمع بين الدعوتين، لما أجابوه أصلا، فإن قومه كانوا واقعين في الكثرة والتشبيه بطريق التقييد، لا التشبيه الإطلاقي الذي هو حق التشبيه. فإنهم كانوا يعبدون الأصنام وهو تقييد في التشبيه، فلو أن نوحا تفوه بالتشبيه أو إطلاقه بأن يقول إن التقييد باطل والأطلاق حق، لما توجهوا إلى التنزيه والوحدة أصلا. فكان عليه أن يدعو إلى التنزيه، فيعالج قومه معالجة الضد، كما فعل. فهو، عليه السلام، وإن كان صاحب التشبيه والتنزيه جمعا لا تفرقة، إلا أنه ما دعا إلا إلى التنزيه لمناسبة حال المدعوين. نعم، كان نبينا (ص) صاحب مقام التشبيه والتنزيه، وكان جمعهما مقاما له بخلاف سائر الأنبياء، عليهم السلام، فإنهم لم يكونوا صاحب المقام، بل كانا فيهم بطريق الحال. أقول: الدعوة إلى التنزيه هي الدعوة إلى التشبيه وبالعكس: فإن التنزيه محجوب في التشبيه، والتشبيه مستور في التنزيه. نعم، كان من دأب الأنبياء، عليهم السلام، التصريح بالتنزيه، وجعل التشبيه في الحجاب لأصحاب السر وأرباب القلوب. وبحسب حالات قومهم وغلبة جهات الكثرة و الوحدة عليهم، كان الدعوة مختلفة في التصريح والرمز، ولهذا من أخذ موسى، عليه السلام، بلحية أخيه. ما فهم القوم إلا التنزيه مع أن أرباب المعرفة فهموا منه التشبيه. وعلى هذا يمكن أن يكون قوله: (ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم و أسررت لهم إسرارا) إشارة إلى أن الجهر والإسرار من كيفية الدعوة، فيكون دعوته جهرا وصراحة إلى التنزيه المطلق، وسرا وفي الحجاب إلى الشبيه المطلق. والعطف ب‍ (ثم) لدلالة أن الدعوة الإسرارية إلى التشبيه منضمة في الدعوة الجهرية إلى التنزيه. ولعل قوله: (دعوت قومي ليلا ونهارا). حكاية عن الدعوة الجهرية والإسرارية. وتقديم الليل على النهار، لعله للإشارة إلى عدم احتجاب نفسه، عليه السلام، عن الكثرة في عين الوحدة وعن الوحدة في عين الكثرة. (الإمام الخميني مد ظله)
(٥١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 508 509 510 511 512 513 514 515 516 517 518 ... » »»