الثقافة الروحية في إنجيل برنابا - محمود علي قراعة - الصفحة ٣١١
تصور العالم الثاني:
يجب تصور ذلك العالم الثاني، الخالي من الحقد ومن لا شهوة ومن الغضب ومن الجبن والخور والحزن، ومن الكفاح لأجل العيش، أو القتال لأجل الحياة، في دار غرسها الله بيده، وجعلها مقرا لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص!
ففي الجنة أشياء كثيرة مادية، سينعم المؤمن الصالح بها، ولكن لن يحول وجودها بين ألها وبين الالتذاذ الروحي بها وبما هو أسمى منها، من عدم وجود اللغو أو التأثيم، بل بث فكرة السلام، سلام القلب والروح، وكرامة الله ورضوانه!
الحق أن تشبثنا بالحسيات، دعانا إلى فهم أن اللذة قاصرة عليها، أو أنها أصل وما عداها تابع أو فرع، وفاتنا أن القائلين بذلك يعكسون الأمور، لأن السمو لا يقاس بالكثرة، بل يقاس بالتأثير، على أنهم إذا تدبروا لوصلوا إلى أن الصريح من السلام ورضوان الله، لن تكون لذته إلا روحية، وما في الجنة من صور حور وولدان، فأسمى تمتع بها روحي، بالنشوة التي يبعثها الجمال والتقديس الواجب لخالق ها الجمال، وكل من النشوة والتقديس روحي، وما عدا ذلك من فاكهة وأنهار ولحم طير ونكاح للحور، وما في الجنة من الأواني والفرش، فلن يبقى للحسيات منها بعد فكرة النشوة الروحية، من رؤية جميل أو شم جميل أو ذوق جميل أو لمس أو سماع جميل، إلا القليل، ثم لذة البدن قاصرة، فلذة العين في النظر إلى ما تستحسنه، ولذة السمع في الاستماع إلى ما يستطيبه، ولذة المس في لمس ما يستلذه، وهكذا، أي أن لكل جزء لذة تختص به لا يشاركه فيها غيره، لذا تعرض لها الآفات في الدنيا، فتعوقها عن شهوتها، ولكن يحصل التعميم في الآخرة، كما ذكرنا بأن يلتذ بالنظر بكلياته وبالسمع بكلياته، وهكذا، وهذا التعميم كما تعرف في الدنيا قاصر على الروح، بمعنى أن لذة الروح لكبرها وسموها، لا تقبل التخصيص، ولذا لن نتصور
(٣١١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 306 307 308 309 310 311 312 313 314 315 316 ... » »»