كشف الله عن بصيرة العبد حتى أبصر طرفا يسيرا من حكمته في خلقه وأمره وثوابه وعقابه وتخصيصه وحرمانه وتأمل أحوال محال ذلك استدل بما علمه على ما لم يعلمه ولما استشكل أعداؤه المشركون هذا التخصيص قالوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا قال تعالى مجيبا لهم * (أليس الله بأعلم بالشاكرين) * فتأمل هذا الجواب تر في ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة النعمة فتثمر بالشكر من المحل الذي لا يصلح لغرسها فلو غرست فيه لم تثمر فكان غرسها هناك ضائعا لا يليق بالحكمة كما قال تعالى * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * فإن قيل إذا حكمتم باستحالة الإيجاد من العبد فإذا لا فعل للعبد أصلا قيل العبد فاعل لفعله حقيقة وله قدرة حقيقة قال تعالى * (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) * * (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) * وأمثال ذلك وإذا ثبت كون العبد فاعلا فأفعاله نوعان نوع يكون منه من غير اقتران قدرته وإرادته فيكون صفة له ولا يكون فعلا كحركات المرتعش ونوع يكون منه مقارنا لإيجاد قدرته واختياره فيوصف بكونه صفة وفعلا وكسبا للعبد كالحركات الاختيارية والله تعالى هو الذي جعل العبد فاعلا مختارا وهو الذي يقر على ذلك وحده لا شريك له ولهذا انكر السلف الجبر فإن الجبر لا يكون إلا من عاجز فلا يكون إلا مع الإكراه يقال للأب ولاية إجبار البكر الصغيرة على النكاح وليس له إجبار الثيب البالغ أي ليس له أن يزوجها مكرهة والله تعالى لا يوصف بالإجبار بهذا الاعتبار لأنه سبحانه خالق الإرادة والمراد قادر على أن يجعله مختارا بخلاف غيره ولهذا جاء في ألفاظ الشارع الجبل دون الجبر كما قال صلى الله عليه وسلم
(٥٠١)