ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة، ولكن كنا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيب السلامة بالعداوة والصبر بالجزع، وكنتم تتوجهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكنا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا.
ثم أصبحتم تصدون قتيلين: قتيلا بصفين تبكون عليهم، وقتيلا بالنهروان تطلبون بثأرهم، فأما الباكي فخاذل، وأما الطالب فثائر.
وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن أردتم الحياة قبلناه منه، وأغضضنا عن القذى، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله وحاكمناه إلى الله.
فنادى القوم بأجمعهم: بل البقية والحياة (1).
ولما وجه إلى معاوية قائدا في أربعة آلاف، وكان من كندة، وأمره أن يعسكر بالأنبار، كتب إليه معاوية: إن أقبلت إلي وليتك بعض كور الشام، أو الجزيرة، غير منفس عليك، وأرسل إليه بخمسمائة ألف درهم، فقبض الكندي المال وقلب على الحسن (عليه السلام)، وصار إلى معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته.
فبلغ ذلك الحسن (عليه السلام) فقام خطيبا وقال: هذا الكندي توجه إلى معاوية وغدر بي وبكم، وقد أخبرتكم مرة بعد أخرى أنه لا وفاء لكم، أنتم عبيد الدنيا، وأنا موجه رجلا آخر مكانه، وأنا أعلم أنه سيفعل بي وبكم ما فعل صاحبه، لا يراقب الله في ولا فيكم.
فبعث إليه رجلا من مراد في أربعة آلاف، وتقدم إليه بمشهد من الناس، وتوكد عليه، وأخبره أنه سيغدر كما غدر الكندي، فحلف له بالأيمان التي لا تقوم لها الجبال أنه لا يفعل. فقال الحسن (عليه السلام): إنه سيغدر.