وأخرى: انه لم ينصب لهم حكما، بل خلى بينهم وبين الحكم على ما يأتون به معارضين له ثقة بانصافهم في الحكم على البيان، فهذه التخلية مرتبة من الانصاف لا تدانيها مرتبة.
رابعها: ان الذين اقتدروا على مثل هذه اللغة، وأتوا هذا القدر من تذوق البيان، ومن العلم باسراره، ومن الأمانة عليه، ومن ترك الجور في الحكم عليه، يوجب العقل أن يكونوا كانوا قد بلغوا في الاعراب عن أنفسهم بألسنتهم المبينة عنهم مبلغا لا يدانى.
وهذه الصفات تفضي بنا إلى التماس ما ينبغي أن تكون عليه صفة كلامهم، إن كان بقي من كلامهم شئ، فالنظر المجرد أيضا يوجب أمرين في نعت ما خلفوه:
الأول: أن يكون ما بقي من كلامهم شاهدا على بلوغ لغتهم غاية من التمام والكمال والاستواء حتى لا تعجزها الإبانة عن شئ مما يعتلج في صدر كل مبين منهم.
الثاني: أن تجتمع فيه ضروب مختلفة من البيان، لا يجزئ أن تكون دالة على سعة لغتهم وتمامها، بل على سجاحتها أيضا، حتى تلين لكل بيان تطيقه ألسنة البشر على اختلاف ألسنتهم.
فهل بقي من كلامهم شئ يستحق أن يكون شاهدا على هذا، ودليلا.
نعم، بقي (الشعر الجاهلي).
واذن.! اذن ينبغي أن نعيد تصور المشكلة وتصور المشكلة وتصويرها، فان النظر المجرد والمنطق المتساوق والتمحيص المتتابع، كل ذلك قد أفضى بنا إلى تجريد معنى (اعجاز القرآن) مما شابه وعلق به، حتى خلص لنا أنه من قبل النظم والبيان.
ثم ساقنا الاستدلال إلى تحديد صفة القوم الذين تحداهم، وصفة لغتهم، ثم خرج بنا إلى طلب نعت كلامهم، ثم التمسنا الشاهد والدليل على الذي أدانا اليه النظر، فإذا هو (الشعر الجاهلي).
واذن، فالشعر الجاهلي هو أساس مشكلة (اعجاز القرآن) كما ينبغي أن يواجهها