صحته وثبوته، إذ تبينت فيه قدرة خارقة على البيان.
وتكشف لي عن روائع كثيرة لا تحد، وإذا هو علم فريد منصوب لا في آداب العربية وحدها، بل في آداب الأمم قبل الاسلام وبعد الاسلام.
وهذا الانفراد المطلق، ولا سيما انفراده بخصائصه عن كل شعر بعده من شعر العرب أنفسهم، هو وحده دليل كاف على صحته وثبوته.
ولقد شغلني اعجاز القرآن كما شغل العقل الحديث، ولكن شغلني أيضا هذا الشعر الجاهلي وشغلني أصحابه فأدي بي طول الاختبار والامتحان والدراسة إلى هذا المذهب الذي ذهبت اليه، حتى صار عندي دليلا كافيا على صحته وثبوته.
فأصحابه الذين ذهبوا ودرجوا وتبددت في الثرى أعيانهم رأيتهم في هذا الشعر أحياء يغدون ويروحون، رأيت شابهم ينزو به جهله وشيخهم تدلف به حكمته، ورأيت راضيهم يستنير وجهه حتى يشرق، وغاضبهم تربد سحنته حتى تظلم، ورأيت الرجل وصديقه، والرجل وصاحبته، والرجل الطريد ليس معه أحد، ورأيت الفارس على جواده، والعادي على رجليه، ورأيت الجماعات في مبداهم ومحضرهم، فسمعت غزل عشاقهم، ودلال فتياتهم، ولاحت لي نيرانهم وهم يصطلون، وسمعت أنين باكيهم وهم للفراق مزمعون.
كل ذلك رأيته وسمعته من خلال ألفاظ هذا الشعر، حتى سمعت في لفظ الشعر همس الهامس وبحة المستكين وزفرة الواجد وصرخة الفزع، وحتى مثلوا بشعرهم نصب عيني كأني لم أفقدهم طرفة عين ولم أفقد منازلهم ومعاهدهم ولم تغب عني مذاهبهم في الأرض ولا مما أحسوا ووجدوا، ولا مما سمعوا وأدركوا ولا مما قاسوا وعانوا، ولا خفي عني شئ مما يكون به الحي حيا في هذه الأرض التي بقيت في التاريخ معروفة باسم (جزيرة العرب).
وهذا الذي أفضيت اليه من صفة الشعر الجاهلي - كما عرفته - أمر ممكن لمن اتخذ لهذه المعرفة أسبابها بلا خلط ولا لبس ولا تهاو ولا ملل.
وهذه المعرفة هي أول الطريق إلى دراسة شعر أهل الجاهلية من الوجه الذي يتيح