أما بعد: فقد عرف أمير المؤمنين كتابكم، وقدير أمركم، ومخض زبدتكم، وأشرف على قلوب صغيركم وكبيركم، وعرفكم مقبلين ومدبرين، وما آل إليه كتابكم في مراوضة الباطل، وصرف وجوه الحق عن مواضعها ونبذكم كتاب الله تعالى والآثار، وكلما جاءكم به الصادق محمد (صلى الله عليه وآله) حتى كأنكم من الأمم السالفة التي هلكت بالخسف والغرق والريح والصيحة والصواعق والرجم، * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) *، والذي هو أقرب إلى أمير المؤمنين من حبل الوريد لولا أن يقول قائل: إن أمير المؤمنين ترك الجواب عجزا لما أجبتكم من سوء أخلاقكم، وقلة أخطاركم، وركاكة عقولكم، ومن سخافة ما تأوون إليه من آرائكم، فليستمع إليه مستمع وليبلغ الشاهد غائبا.
أما بعد: إن الله تعالى بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) على فترة من الرسل، وقريش في أنفسها وأموالها لا يرون أحدا يساميهم ولا يباريهم، فكان نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) أمينا من أوسطهم بيتا وأقلهم مالا، وكان أول من آمنت به خديجة بنت خويلد فواسته بمالها، ثم آمن به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وله سبع سنين، لم يشرك بالله شيئا [طرفة عين]، ولم يعبد وثنا ولم يأكل ربا (1)، ولم يشاكل الجاهلية في جهالاتهم، وكانت عمومة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إما مسلم مهين أو كافر معاند إلا حمزة فإنه لم يمتنع من الإسلام ولا امتنع الإسلام منه، فمضى لسبيله على بينة من ربه.
وأما أبو طالب فإنه كفله ورباه، ولم يزل مدافعا عنه ومانعا منه، فلما قبض الله أبا طالب هم به القوم وأجمعوا عليه ليقتلوه، فهاجر إلى القوم الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون]، فلم يقم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحد من المهاجرين كقيام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) فإنه آزره ووقاه بنفسه ونام في مضجعه، ثم لم يزل متكئا - وفي نسخة: متمسكا - بأطراف الثغور وينازل الأبطال، ولا ينكل عن قرن، ولا يولي عن جيش منيع القلب، يؤمر على الجميع ولا يؤمر عليه أحد، أشد الناس وطأة على المشركين، وأعظمهم جهادا في الله، وأفقههم في دين الله، وأقرأهم لكتاب الله وأعرفهم بالحلال والحرام، وهو صاحب الولاية في حديث غدير خم، وصاحب قوله: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي "، وصاحب يوم الطائف.