التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٨٩
وكانت قصص الأيام في حلقات السمر التي تعقد أمام الأخبية والخيام للتسلية والمتعة، وللمفاخرة في بعض الحالات. ولم تكن تتداول كمادة علمية. والرأي الراجح أنها لم تدون على الإطلاق.
والأنساب وإن كانت تدل على شعور بالماضي من خلال وعي الانتماء إلى الآباء الذين تشتمل على ذكرهم شجرة النسب القبلية، إلا أن علمنا بأن شجرات الأنساب كانت تقتصر على مجرد ذكر الأسماء فقط دون أن تحتوي على أية مادة تاريخية، علمنا بهذا الوضع لشجرات الأنساب التي كانت تتداول عن طريق الروايات الشفوية يجعل قيمتها كمصدر لتكوين الوعي التاريخي معدومة.
ومن المؤكد أن شجرات الأنساب في العصر الجاهلي لم تعرف أي شكل من أشكال التدوين ليتيح فرصة إضافة مادة تاريخية إليها. ولم تدون شجرات الأنساب في كتب إلا في عصر إسلامي متأخر نسبيا.
ويظهر لنا هذا الوميض من الشعور بالماضي لدى العربي الجاهلي في الشعور الذي يصور مواقف أخلاقية للشاعر في مجالات الحرب، والكرم، والوفاء، وما إلى ذلك، حيث تدفع الشاعر خشيته من (أحاديث الغد) التي تعكس مسلكية غير نبيلة إلى أن يجعل سلوكه منسجما مع قيم النبالة كما تقضي بها أخلاقيات المجتمع الجاهلي فيكون وفيا، وشجاعا حتى الموت، وكريما...
هذا الشعور يمكن أن يكون نواة للوعي التاريخي، ولكنه لا يرقى، بطبيعة الحال، إلى أن يكون وعيا تاريخيا بالمعنى الذي حددناه آنفا. إنه وعي ناشئ عن قيم أخلاقية بدوية الطابع، وليس عن وجود تاريخ يستوعبه الشعور والوجدان، وهو مقصور على حالات فردية لم تبلغ أن تكون وعيا عاما. وهو شعور بالخشية من تصرف شخصي أو موقف شخصي قد يدفع الآخرين إلى إدانته، وليس شعورا بإنجازات الآخرين وتفاعلا معها.
* كان هذا حال العربي الجاهلي
(٨٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 95 ... » »»