العمل مرة أخرى بأمل واقعي جديد.
بالإجمال: إن وعي الإنسان لهذين العاملين، وإدراكه لأثرهما العميق والمصيري في حياته وفي الوجود من حوله يجعله قادرا على مواجهة الحياة بكل وجوهها وما فيها من حسن وقبح، وألم ولذة، وواقع وخيال، ونجاح وإخفاق... يواجهها بروح واقعية.
وحين يدخل الإمام عليه السلام في وعظه عنصر التاريخ فيتحدث عن الماضين وما حل بهم من كوارث وآلام وما انتهت إليه حياتهم على عظمة توهجها من انطفاء فإنه يقدم لتحليله النظري الذي تناول واقع حياة معاصريه الذين يخاطبهم - يقدم نماذج تطبيقية من حياة أقوام آخرين.. إنه يقدم لمعاصريه تجربة الآخرين التي يعرفونها، ويبعثون حياتهم في ساحاتها، ويرون آثارها الباقية من الماضي في هذه الساحات.
فهذه المدن والمساكن، وهذه الضياع والمزارع، وهذه القلاع والحصون عمرها في عصور سابقة أناس تقلبت بهم صروف الحياة وأفراحها وأحزانها، والآمال التي سعدوا بإنجازها وخيبات الأمل، ثم ماتوا وانقطعوا عن كل ما كان يملأ عليهم حياتهم من أحلام وأماني.
ومطامح ومطامع، وحب وبغضاء، وصداقات وعداوات...
وكان هؤلاء أطول أعمارا، وأكثر قوة.. وأعد عديدا، وقد وجهوا كل ما أوتوا من قدرة وذكاء ومعرفة لدنياهم، فأعدوا لها واستعدوا، ولم يشغلهم عنها تفكير بالآخرة أو عمل لها، ولكن كل ذلك لم ينفعهم ولم يعد عليهم بطائل، لأن عامل التغير والتقلب من جهة وعامل الزمن من جهة أخرى، عملا دائما - كما لا يزالان يعملان، وكما سيعملان في المستقبل - على تفتيت حياة أولئك الناس، وكانت حياتهم - كما هي الحياة الآن، وكما ستبقى الحياة - تحمل في جوهرها وفي أعماقها أثناء ولادتها ونموها وازدهارها بذور تقلصها وذبولها وانطفائها في آخر المطاف.
* هذا نموذج من وعظ الإمام علي الذي يدخل فيه عنصر التاريخ باعتباره يضئ الحاضر لأنه يضيف إليه تجربة الماضي ويجعله - بذلك أكثر غنى، ويجعل الإنسان أكثر قدرة على مواجهته بروح واقعية وبعقل خال من الأوهام، فلا يهن ولا يستسلم تحت وطأة الكارثة، ولا يطغى ولا يطوح به الغرور وهو في ذرى النجاح.