التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٤٨
والمواعظ التي استخدم الإمام فيها عنصر التاريخ كغيرها من مواعظه في أنه لا يدعو فيها إلى مذهب زهدي سلبي من الحياة الدنيا، وإنما يعالج بها حالة خاصة في مجتمعه الذي بدا غافلا عن مصيره التعس، مهملا لواجباته في جهاد النفس وجهاد العدو، متلهفا على المتع والثراء اللذين لا يستحقهما الا مجتمع مستقر أحكم وضعه الأمني والسياسي والاجتماعي، وقطع دابر الطامعين فيه المتآمرين عليه، وهذا ما لم يكنه مجتمع العراق في عهد الإمام عليه السلام، بل كان مجتمعا قلقا يعاني من اضطراب أمنه الخارجي وتدهور أمنه الداخلي، كما يعاني من التمزق السياسي، وكان - نتيجة لذلك - يؤجج مطامع الحكم الأموي في الشام ويدفع به نحو التآمر عليه.
ونقدم فيما يلي نموذجا من النصوص الوعظية التي يكون التاريخ عنصرا بارزا وأساسيا فيها.
قال عليه السلام:
أما بعد، فإني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات، وتحببت بالعاجلة، وراقت بالقليل، وتحلت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حبرتها 1، ولا تؤمن فجعتها، غرارة ضرارة، حائلة 2 زائلة نافدة بائدة 3، أكالة غوالة 4، لا تعدو - إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضاء بها أن تكون كما قال الله تعالى سبحانه كماء أنزلناه من السماء، فاختلط به نبات الأرض، فأصبح هشيما 5 تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا 6، لم يكن امرؤ منها في حبرة الا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق في سرائها بطنا إلا منحته من ضرائها ظهرا 7، ولم تطله فيها ديمة 8 رخاء إلا هتنت 9 عليه مزنة بلاء. وحري إذا أصبحت له منتصرة

1. الحبرة: بالفتح - النعمة.
(2) حائلة: متغيرة.
(3) نافدة: فانية.
(4) غوالة: مهلكة.
(5) الهشيم: النبت اليابس.
(6) سورة الكهف (رقم 18 مكية) الآية: 45.
(7) البطن كناية عن إقبال الدنيا، والظهر كناية عن الإدبار.
(8) الطل: المطر الخفيف. والديمة: مطر يدوم في سكون لا يرافقه رعد وبرق.
(9) هتنت: انصبت.
(٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 38 41 42 43 47 48 49 50 51 52 55 ... » »»