التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٨٩
تنشأ هذه المقاومة من حق استعاد بعضا من حيويته فهو لا يطيق السكوت، فيعبر عن نفسه بالثورة، لا لينتصر، فقد يكون انتصار الحق بعيد المنال في هذه المرحلة من التاريخ، ولكن ليكسر من غلواء الفتنة، ويعطل جانبا من عملها التخريبي في عقيدة الأمة وشخصيتها، وذلك حين يسلب الفتنة الشعور بالاستقرار والأمان، فيحملها على اتخاذ موقف الدفاع عن نفسها والتخلي عن بعض مناهجها التخريبية، ويحملها على أن ترتد ولو قليلا إلى الصواب.
أو تنشأ هذه المقاومة من أزمات داخل الفتنة نفسها، تولد فتنا تزعج أهل السلطان القديم، وتأتي إلى سدة السلطان بقوم آخرين، ويكون بين أولئك وهؤلاء فرج لأهل الإيمان، ونهضة لأهل الحق في غفلة أهل السلطان.
قال عليه السلام:
حتى يظن الظان أن الدنيا معقولة على بني أمية (1)، تمنحهم درها (2)، وتوردهم صفوها، ولا يرفع عن هذه الأمة سوطها ولا سيفها، وكذب الظان لذلك، بل هي مجة (3) من لذيذ العيش يتطعمونها برهة، ثم يلفظونها جملة (4).
وقال عليه السلام في نص آخر يخاطب بني أمية:
فما احلولت لكم الدنيا في لذتها، ولا تمكنتم من رضاع أخلافها (5) إلا من بعد ما صادفتموها جائلا خطامها (6)، قلقا وضينها (7)، قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السدر المخضود (8)، وحلالها بعيدا غير موجود، وصادفتموها والله، ظلا ممدودا إلى أجل معدود.

(1) معقولة..: مقصورة عليهم، دائمة لهم، من عقل الناقة إذا حبسها بالعقال في مكان بعينه.
(2) الدر: اللبن، يعني خيرات الدنيا والذاتها.
(3) مجة: مصدر مرة، من مج الشراب من فيه، يعني أنها لا تدوم لهم كما يتوهم الناس وإنما يمجونها ويلفظونها رغما عنهم.
(4) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 87.
(5) الأخلاف جمع خلف: حملة ضرع الناقة.
(6) الخطام: ما يوضع في أنف البعير ليقاد به، يعني أن تخاذل أهل الحق عن نصرة الحق مكن لأهل الباطل من الإنتصار.
(7) الوضين: حزام عريض يشد به الرحل على الناقة، وهو كناية عن تخاذل أهل الحق الذي مكن لأهل الباطل من النصر.
(8) السدر: شجر النبق، والمخضود: المقطوع شوكه. يعني أنكم انتصرتم بأقوام يستحلون حرام الله، ولا يتورعون من شئ.
(١٨٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 184 185 186 187 188 189 190 191 192 193 194 ... » »»