فيعسر بعض العسر ولذلك لما عاج فيها على المدارك البشرية اختصت بالسمع وصعب ما سواه وعند ما يتكرر الوحي ويكثر التلقي يسهل ذلك الاتصال فعند ما يعرج إلى المدرك البشرية يأتي على جميعها وخصوصا الأوضح منها وهو إدراك البصر وفي العبارة عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي وفي الثانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة وهي أن الكلام جاء مجئ التمثيل لحالتي الوحي فمثل الحالة الأولى بالدوي الذي هو في المتعارف غير كلام وأخبر أن الفهم والوعي يتبعه غب انقضائه فناسب عند تصوير انقضائه وانفصاله العبارة عن الوعي بالماضي المطابق للانقضاء والانقطاع ومثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطب ويتكلم والكلام يساوقه الوعي فناسب العبارة بالمضارع المقتضي للتجدد. واعلم أن في حالة الوحي كلها صعوبة على الجملة وشدة قد أشار إليها القرآن قال تعالى إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا وقالت عائشة كان مما يعاني من التنزيل شدة وقالت كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا. ولذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط ما هو معروف وسبب ذلك أن الوحي كما قررنا مفارقة البشرية إلى المدارك الملكية وتلقي كلام النفس فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها وانسلاخها عنها من أفقها إلى ذلك الأفق الاخر وهذا هو معنى الغط الذي عبر به في مبدأ الوحي في قوله فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ وكذا ثانية وثالثة كما في الحديث وقد يفضي الاعتياد بالتدريج فيه شيئا فشيئا إلى بعض السهولة بالقياس إلى ما قبله ولذلك كان تنزل نجوم القرآن وسوره وآيه حين كان بمكة أقصر منها وهو بالمدينة وانظر إلى ما نقل في نزول سورة براءة في غزوة تبوك وأنها نزلت كلها أو أكثرها عليه وهو يسير على ناقته بعد أن كان بمكة ينزل عليه بعض السورة من قصار المفصل في وقت وينزل الباقي في حين آخر وكذلك كان آخر ما نزل بالمدينة آية الدين وهي ما هي في الطول بعد أن كانت الآية تنزل بمكة مثل آيات الرحمن والذاريات والمدثر والضحى والفلق وأمثالها واعتبر من ذلك علامة تميز بها بين المكي والمدني من السور والآيات والله المرشد إلى الصواب. هذا محصل أمر النبوءة وأما الكهانة فهي أيضا
(٩٩)