تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٨٨
والسبب في ذلك والله أعلم أن كثرة الأغذية وكثرة الاخلاط الفاسدة العفنة ورطوباتها تولد في الجسم فضلات رديئة تنشأ عنها بعد إقطارها في غير نسبة ويتبع ذلك انكساف الألوان وقبح الاشكال من كثرة اللحم كما قلناه وتغطي الرطوبات على الأذهان والأفكار بما يصعد إلى الدماغ من أبخرتها الردية فتجئ البلادة والغفلة والانحراف عن الاعتدال بالجملة واعتبر ذلك في حيوان القفر ومواطن الجدب من الغزال والنعام والمها والزرافة والحمر الوحشية والبقر مع أمثالها من حيوان التلول والأرياف والمراعي الخصبة كيف تجد بينها بونا بعيدا في صفاء أديمها وحسن رونقها وأشكالها وتناسب أعضائها وحدة مداركها فالغزال أخو المعز والزرافة أخو البعير والحمار والبقر أخو الحمار والبقر والبون بينها ما رأيت وما ذاك إلا لاجل أن الخصب في التلول فعل في أبدان هذه من الفضلات الردية والاخلاط الفاسدة ما ظهر عليها أثره والجوع لحيوان القفر حسن في خلقها وأشكالها ما شاء واعتبر ذلك في الآدميين أيضا فإنا نجد أهل الأقاليم المخصبة العيش الكثيرة الزرع والضرع والادم والفواكه يتصف أهلها غالبا بالبلادة في أذهانهم والخشونة في أجسامهم وهذا شان البربر المنغمسين في الأدم والحنطة مع المتقشفين في عيشهم المقتصرين على الشعير أو الذرة مثل المصامدة منهم وأهل غمارة والسوس فتجد هؤلاء أحسن حالا في عقولهم وجسومهم وكذا أهل بلاد المغرب على الجملة المنغمسين في الأدم والبر مع أهل الأندلس المفقود بأرضهم السمن جملة وغالب عيشهم الذرة فتجد لأهل الأندلس من ذكاء العقول وخفة الأجسام وقبول التعليم ما لا يوجد لغيرهم وكذا أهل الضواحي من المغرب بالجملة مع أهل الحضر والأمصار فإن الأمصار وإن كانوا مكثرين مثلهم من الأدم ومخصبين في العيش إلا أن استعمالهم إياها بعد العلاج بالطبخ والتلطيف بما يخلطون معها فيذهب لذلك غلظها ويرق قوامها وعامة ما كلهم لحوم الضأن والدجاج ولا يغبطون السمن من بين الأدم لتفاهته فتقل الرطوبات لذلك في أغذيتهم ويخف ما تؤديه إلى أجسامهم من الفضلات الردية فلذلك تجد جسوم أهل الأمصار ألطف من جسوم البادية المخشنين في العيش وكذلك تجد المعودين بالجوع من أهل البادية لا فضلات في جسومهم غليظة ولا لطيفة. واعلم
(٨٨)
مفاتيح البحث: يوم عاشوراء (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 ... » »»