تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ١٠٠
من خواص النفس الانسانية وذلك أنه قد تقدم لنا في جميع ما مر أن للنفس الانسانية استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها وأنه يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء بما فطروا عليه من ذلك وتقرر أنه يحصل لهم من غير اكتساب ولا استعانة بشئ من المدارك ولا من التصورات ولا من الأفعال البدنية كلاما أو حركة ولا بأمر من الأمور إنما هو انسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة في لحظة أقرب من لمح البصر وإذا كان كذلك وكان ذلك الاستعداد موجودا في الطبيعة البشرية فيعطى التقسيم العقلي وإن هنا صنفا آخر من البشر ناقصا عن رتبة الصنف الأول نقصان الضد عن ضده الكامل لان عدم الاستعانة في ذلك الادراك ضد الاستعانة فيه وشتان ما بينهما فإذا أعطي تقسيم الوجود إلى هنا صنفا آخر من البشر مفطورا على أن تتحرك قوته العقلية حركتها الفكرية بالإرادة عندما يبعثها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه بالجبلة عندما يعوقها العجز عن ذلك تشبث بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالأجسام الشفافة وعظام الحيوانات وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان فيستديم ذلك الإحساس أو التخيل مستعينا به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له وهذه القوة التي فيهم مبدأ لذلك الادراك هي الكهانة ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان إدراكها في الجزئيات أكثر من الكليات ولذلك تكون المخيلة فيهم في غاية القوة لأنها آلة الجزئيات فتنفذ فيها نفوذا تاما في نوم أو يقظة وتكون عندها حاضرة عتيدة تحضرها المخيلة وتكون لها كالمرآة تنظر فيها دائما ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لان وحيه من وحي الشيطان وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة ليشتغل به عن الحواس ويقوى بعض الشئ على ذلك الاتصال الناقص فيهجس في قلبه عن تلك الحركة والذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذفه على لسانه فربما صدق ووافق الحق وربما كذب لأنه يتمم نقصه بأمر أجنبي عن ذاته المدركة ومباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق والكذب جميعا ولا يكون موثوقا به وربما يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصا على الظفر بالادراك بزعمه وتمويها على السائلين وأصحاب هذا السجع هم
(١٠٠)
مفاتيح البحث: التصديق (1)، الظنّ (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 ... » »»