تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٩٨
لذلك فيتسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الادراك الأول البشري ويسرح في فضاء المشاهدات الباطنية وهي وجدان كلها نطاق لها من مبدئها ولا من منتهاها وهذه مدارك العلماء الأولياء أهل العلوم الدينية والمعارف الربانية وهي الحاصلة بعد الموت لأهل السعادة في البرزخ وصنف مفطور على الانسلاخ من البشرية جملة جسمانيتها وروحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى ليصير في لمحة من اللمحات ملكا بالفعل ويحصل له شهود الملا الأعلى في أفقهم وسماع الكلام النفساني والخطاب الإلهي في تلك اللمحة وهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة وهي حالة الوحي فطرة فطرهم الله عليها وجبلة صورهم فيها ونزههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بالبشرية بما ركب في غرائزهم من القصد والاستقامة التي يحاذون بها تلك الوجهة وركز في طبائعهم رغبة في العبادة تكشف بتلك الوجهة وتسيغ نحوها فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النوع من الانسلاخ متى شاءوا بتلك الفطرة التي فطروا عليها لا باكتساب ولا صناعة فلذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم وتلقوا في ذلك الملا الأعلى ما يتلقونه عاجوا به على المدارك البشرية منزلا في قواها لحكمة التبليغ للعباد فتارة يسمع أحدهم دويا كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي ألقي إليه فلا ينقضي الدوي إلا وقد وعاه وفهمه وتارة يتمثل له الملك. الذي يلقي إليه رجلا فيكلمه ويعي ما يقوله والتلقي من الملك والرجوع إلى المدارك البشرية وفهمه ما ألقي عليه كله كأنه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر لأنه ليس في زمان بل كلها تقع جميعا فيظهر كأنها سريعة ولذلك سميت وحيا لان الوحي في اللغة الاسراع واعلم أن الأولى وهي حالة الدوي هي رتبة الأنبياء غير المرسلين على ما حققوه والثانية وهي حالة تمثل الملك رجلا يخاطب هي رتبة الأنبياء المرسلين ولذلك كانت أكمل من الأولى وهذا معنى الحديث الذي فسر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الوحي لما سأله الحارث بن هشام وقال كيف يأتيك الوحي فقال أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك فيكلمني فأعي ما يقول وإنما كانت الأولى أشد لأنها مبدأ الخروج في ذلك الاتصال من القوة إلى الفعل
(٩٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 ... » »»