يعرج على المدارك البدنية ويقع فيها ما يقع من الادراك شبيها بحال النوم شبها بينا وإن كان حال النوم أدون منه بكثير فلأجل هذا الشبه عبر الشارع عن الرؤيا بأنها جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوءة وفي رواية ثلاثة وأربعين وفي رواية سبعين وليس العدد في جميعها مقصودا بالذات وإنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه وهو للتكثير عند العرب وما ذهب إليه بعضهم في رواية ستة وأربعين من أن الوحي كان في مبدئه بالرؤيا ستة أشهر وهي نصف سنة ومدة النبوءة كلها بمكة والمدينة ثلاث وعشرون سنة فنصف السنة منها جزء من ستة وأربعين فكلام بعيد من التحقيق لأنه إنما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ومن أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبوءة ولا يعطى حقيقتها من حقيقة النبوءة وإذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولا علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم صلوات الله عليهم إذ هو الاستعداد البعيد وإن كان عاما في البشر ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل ومن أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم الذي هو جبلي لهم فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق فتدرك في بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب ولذلك جعلها الشارع من المبشرات فقال لم يبق من النبوءة إلا المبشرات قالوا وما المبشرات يا رسول الله قال الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له واما سبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم فعلى ما أصفه لك وذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها وأفعالها بالروح الحيواني الجسماني وهو بخار لطيف مركزه بالتجويف الأيسر من القلب على ما في كتب التشريح لجالينوس وغيره وينبعث مع الدم في الشريانات والعروق فيعطي الحس والحركة وسائر الأفعال البدنية ويرتفع لطيفه إلى الدماغ فيعدل من برده وتتم أفعال القوى التي في بطونه فالنفس الناطقة إنما تدرك وتعقل بهذا الروح البخاري وهي متعلقة به لما اقتضته حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف ولما لطف هذا الروح الحيواني من بين المواد البدنية
(١٠٣)