تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٣٤٩
البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النائية إلا أن ذلك ليس بمثابة الأول وهذه كلها متفاوتة بتفاوت الحاجات وما تدعو إليه ضرورة الساكن وقد يكون الواضع غافلا عن حسن الاختيار الطبيعي أو إنما يراعي ما هو أهم على نفسه وقومه ولا يذكر حاجة غيرهم كما فعله العرب لأول الاسلام في المدن التي اختطوها بالعراق وأفريقية فإنهم لم يراعوا فيها إلا الأهم عندهم من مراعي الإبل وما يصلح لها من الشجر والماء الملح ولم يراعوا الماء ولا المزارع ولا الحطب ولا مراعي السائمة من ذوات الظلف ولا غير ذلك كالقيروان والكوفة والبصرة وأمثالها ولهذا كانت أقرب إلى الخراب ما لم تراع فيها الأمور الطبيعية ومما يراعى في البلاد الساحلية التي على البحر أن تكون في جبل أو تكون بين أمة من الأمم موفورة العدد تكون صريخا للمدينة متى طرقها طارق من العدو والسبب في ذلك أن المدينة إذا كانت حاضرة البحر ولم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيات ولا موضعها متوعر من الجبل كانت في غرة للبيات وسهل طروقها في الأساطيل البحرية على عدوها وتحيفه لها لما يأمن من وجود الصريخ لها وأن الحضر المتعودين للدعة قد صاروا عيالا وخرجوا عن حكم المقاتلة وهذه كالإسكندرية من المشرق وطرابلس من المغرب وبونة وسلا ومتى كانت القبائل والعصائب موطنين بقربها بحيث يبلغهم الصريخ والنعير وكانت متوعرة المسالك على من يرومها باختطاطها في هضاب الجبال وعلى أسنمتها كان لها بذلك منعة من العدو ويئسوا من طروقها لما يكابدونه من وعرها وما يتوقعونه من إجابة صريخها كما في سبتة وبجاية وبلد القل على صغرها فافهم ذلك واعتبره في اختصاص الإسكندرية باسم الثغر من لدن الدولة العباسية مع أن الدعوة من ورائها ببرقة وأفريقية وإنما اعتبر في ذلك المخافة المتوقعة فيها من البحر لسهولة وضعها ولذلك والله أعلم كان طروق العدو للإسكندرية وطرابلس في الملة مرات متعددة والله تعالى أعلم الفصل السادس في المساجد والبيوت العظيمة في العالم إعلم أن الله سبحانه وتعالى فضل من الأرض بقاعا اختصها بتشريفه وجعلها مواطن
(٣٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 344 345 346 347 348 349 350 351 352 353 354 ... » »»