دهري أغلس في كل يوم إلى هشيم أو غيره من المحدثين فأسمع منه، ثم أصير إلى الكسائي أو الفراء أو ابن غزالة فأقرأ عليه جزءا من القرآن، ثم آتي إلى منصور زلزل فيضاربني طريقين أو ثلاثة، ثم آتي عاتكة بنت شهدة فآخذ منها صوتا أو صوتين. ثم آتي الأصمعي وأبا عبيدة فأناشدهما وأحدثهما وأستفيد منهما، ثم أصير إلى أبي فأعلمه ما صنعت، ومن لقيت، وما أخذت، وأتغدى معه. فإذا كان العشى رحلت إلى أمير المؤمنين الرشيد.
وقال محمد: أخبرني الصولي قال: حدثني عبد الله بن المعتز، حدثني أبو عبد الله الهشامي. قال: اعتبر أهلنا على إسحاق بأن دعوه ومدوا ستارة وأقعدوا كاتبين ضابطين بحيث لا يراهما إسحاق، وقالوا: كلما غنت الستارة صوتا فتكلم عليه إسحاق، فاكتبا الصوت، واكتبا لفظه فيه، وجعل إسحاق كلما سمع صوتا أخبر بالشعر لمن هو، ونسب الصوت وذكر جميع من تغنى فيه، وخبرا إن كان له خبر، كتب ذلك كله وحفظ. ثم دعوا إسحاق بعد مدة طويلة وضربوا ستارة وأمروا من خلفها أن يغنين بمثل ما كن غنين به في ذلك اليوم، ففعلن وابتدأ إسحاق يتكلم في الغناء بمثل ما كان تكلم به، ما خرم حرفا. قال: فعلموا وعلم الناس أنه لا يقول إلا صوابا وحقا. وعجبوا منه.
حدثني علي بن المحسن قال: وجدت في كتاب جدي علي بن محمد بن أبي الفهم التنوخي، حدثنا الحرمي بن أبي العلاء، حدثنا أبو خالد بن يزيد بن محمد المهلبي قال: سمعت إسحاق الموصلي يقول: لما خرجنا مع الرشيد إلى الرقة قال لي الأصمعي: كم حملت معك من كتبك؟ قلت: تخففت، فحملت ثانية أحمال، ستة عشر صندوقا! قال: فعجب فقلت: كم معك يا أبا سعيد؟ قال: ما معي إلا صندوق واحد، قلت: ليس إلا؟ قال: وتستقل صندوقا من حق! قال أبو خالد:
وسمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقول: رأيت في منامي كأن جريرا ناولني كبة من شعر فأدخلتها في فمي، فقال بعض المعبرين: هذا رجل يقول من الشعر ما شاء، قال: وجاء مروان بن أبي حفصة يوما إلى أبي فاستنشدني من شعري فأنشدته:
إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي * ورافع ضيمي حازم وابن حازم عطست بأنف شامخ وتناولت * يداي السماء قاعدا غير قائم قال: فجعل مروان يستحسن ذلك ويقول لأبي: إنك لا تدرى ما يقول هذا الغلام!