لغلبة تلك النقطة البيضاء التي كانت في قبله إلى أن بلغت حدا أحاطت بتمامه وانعدمت النقطة السوداء، وبعضهم بالعكس فسلك سبيل الشر ترجيحا لما يتراءى في نظره من اللذائذ والمشتهيات النفسانية على المنافع الجليلة الأخروية باختيار منه فصار سلوكه مسلك الشر منشأ لغلبة تلك النقطة السوداء التي كانت في قلبه إلى أن بلغت حدا أحاطت بتمامه، فصار الأول من أهل التوحيد والايمان والثاني من أهل الفسوق والعصيان من غير أن يكون واحد منهم مجبورا في الإطاعة والمعصية بوجه أصلا، كما لا يخفى.
وإلى ما ذكرنا أيضا لا بد وان يحمل الخبر المعروف بأن السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه ] 1 [ حيث إنه على فرض صدوره عن الإمام عليه السلام وعدم كونه من الموضوعات، محمول على تقدم علمه سبحانه قبل ولادة افراد الانسان بما يصيرون إليه في عاقبة أمرهم بسبب سعيهم الاختياري في ترجيحات بعضهم المنافع الأخروية على الفوائد الدنيوية واللذائذ الشهوانية وترجيحات بعضهم الاخر اللذائذ الدنيوية على الفوائد الجليلة الأخروية، والا فلا بد من طرحه لمخالفة لما يحكم به بداهة العقل والوجدان ولما نطق به الكتاب والسنة المتواترة.
وحينئذ فإذا ظهر لك عدم مجبورية العباد فيما يصدر منهم عن الافعال في مقام الإطاعة والعصيان، ظهر أيضا صحة تعلق الإرادة التشريعية بالايمان من الكفار وبالعمل بالأركان من أهل الفسوق والعصيان من دون ان يكون ذلك من الامر بالمحال وبما لا يقدر عليه العباد، من جهة ما عرفت من كون العبد بعد على إرادته واختياره في إيجاد الفعل المأمور به وان عدم صدوره منه انما هو لأجل عدم تحقق علته التي هي إرادته للايجاد بسوء اختياره وترجيحه جانب المشتهيات النفسانية على المنافع الأخروية. واما صحة طلبه سبحانه منه حينئذ مع علمه صدور الفعل منه من جهة عدم إرادته، فهو كما تقدم لأجل الاعلام بما في الفعل من الصلاح الراجع إلى أنفسهم ولكي يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ولئلا يكون لهم على الله سبحانه الحجة بل كان له سبحانه عليهم حجة بالغة من جهة إعلامهم بما فيه الصلاح والفساد، فتدبر.
] 1 [ توحيد الصدوق، الباب 58 (باب السعادة والشقاء) الحديث 3 وفيه عنه صلى الله عليه وآله: (الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه).