مع تسليم كونها علة تامة للحكم المطلق لكن وضوح فساد الثاني يمنع من تنزيل كلام مثله عليه بعد ما علم من سعة باعه في علم المعقول فيتعين الحمل على الأول وربما كان في كلامه تلويحات إليه فائدتان الأولى علية العلة قد تعرف بالتنصيص عليها بلفظ دال عليها وضعا كالباء و اللام وما يرادفهما من الأسماء كالسبب والعلة وقد تعرف من تعليق الحكم على الوصف لاشعاره بالحيثية التعليلية في بعض الموارد وقد تعرف من اقتران الخطاب بما لولا كونه علة لاستبعد اقترانه به وذلك كما لو سيق الخطاب طلبا للجواز واقترن به ما يصلح له نحو قوله صلى الله عليه وآله كفر بعد قول السائل واقعت أهلي في نهار شهر رمضان بخلاف نحو قول المولى لعبده اسقني ماء بعد قوله جاء زيد أو طلع الفجر فإنه مما لا يقتضي الجواب غالبا أو لا يصلح المذكور وقد تعرف من الفعل كما لو سجد عند قراءته لآية السجدة أو سماعه أو من التقرير كما لو فعل ذلك غيره عنده فأقره عليه و قد تعرف بالقرائن الحالية والشواهد الاستنباطية البالغة درجة اليقين و يسمى القياس حينئذ بالقياس المنقح المناط وكيف كان فمتى علم بالعلة التامة للحكم ولو بظاهر معتبر كما في المنصوص وجب تعدي الحكم إلى سائر موارد العلة لامتناع تخلف المعلول عن علته التامة وهنا إشكال لا بأس بالتعرض له ولدفعه وهو أن أصحابنا الفقهاء قد صرحوا في غير موضع بأن علل الشرع معرفات وليست بعلل حقيقية فأجازوا لذلك من توارد عدة منها على معلول واحد كما نبهوا عليه في مسألة تعاقب الاحداث الموجبة للطهارة وهذا ينافي القول بحجية هذه الأنواع من القياس لابتناء حجيتها على اعتبار العلة علة حقيقية تامة ضرورة أن العلل الغير الحقيقية أو الناقصة يجوز انفكاكها عن معلولها ووجه الدفع أن علل الشرع على ضربين الأول العلل المجعولة في الشرع عللا وأسبابا بالأحكام مخصوصة كعلية الاحداث لوجوب الطهارات والافطار والظهار والايلاء والحنث و الصيد لوجوب الكفارات والتصرف والاتلاف لثبوت الضمان و العقود والايقاعات لوجوه النقل والانتقال والفك والبينونة إلى غير ذلك وهذه العلل إذا قيست إلى الاحكام التي يترتب عليها شرعا كانت معرفات لها ومبينات لتحققها بعللها الواقعية لا عللا حقيقية لانحصارها في الأربع وعدم كونها من المادية والصورية واضح وكذا كونها من العلة الفاعلية لاستناد جعل الأحكام الشرعية إليه تعالى لا إلى تلك الأسباب وكذا عدم كونها من الغائية لظهور أن ليس المقصود بوضع تلك الأحكام ترتب تلك الأسباب عليها الثاني العلل التي هي منشأ الحكم وجهات حسن تشريعه وما يستند إليه مطلوبية الفعل أو مبغوضيته كإسكار الخمر الموجب لمبغوضية شربها وهذه العلل علل حقيقية وليست بعلل وضعية إذ مرجعها إلى العلة الغائية فإن المقصود من تحريم الخمر حفظ المكلف عن السكر وفساد العقل وما ذكره الفقهاء من أن علل الشرع معرفات فإنما عنوا به القسم الأول بقرينة ذكرهم ذلك في سياق تلك العلل وقد عرفت أنها لا تصلح للعلية الحقيقية بالنسبة إلى الاحكام التي تعد عللا لها وإن كانت بالنسبة إلى الآثار التي قصد بوضع تلك الأحكام رفعها أسبابا عقلية كما أن رفع تلك الآثار إن قيست إلى تلك الأحكام كانت عللا غائية لها فظهر أن الفرق بين القسمين إضافي ومن هنا نقول لو علم في القسم الأول أن وجوب الطهارة عن الاحداث الثلاثة إنما هو لإزالة حالة حدثية حادثة من خروج الاحداث وعلم بحدوثها بأمر آخر حكمنا بوجوب الطهارة له و رجع إلى القسم الأخير ثم يبقى الكلام هنا في جواز توارد العلل الغائية على معلول واحد وتحقيق الكلام فيه أن الحكم المعلل بها إن كان قابلا للشدة والضعف كالوجوب والتحريم وأخويهما وصلح توارد الأسباب عليه لإفادة تأكده كان معلول إحداهما حال الانفراد غير معلول المجموع حال الاجتماع فيكون علية المنفرد للضعيف مشروطة بعدم الانضمام إذ حال الانضمام يكون المعلول أمرا آخر وهو القوي المباين للضعيف ولو لم يكن الحكم قابلا للشدة والضعف كالإباحة والصحة والفساد أو كان ولكن علم عدم تأكده بطريان مثل العلة كالاحداث المتعاقبة جاز أن تكون علية الثاني مشروطة بعدم سبق المتقدم فيكون الثاني معرفا وكاشفا محضا ويصح اعتباره في النية فينوي في مسألة تعاقب الاحداث رفع الحالة المنكشف عنها بالاحداث المتعاقبة وأن لا تكون مشروطة به فيشترط استدامة التأثير به فيكون العلة بعد تحققه هو والسابق كما في صورة التوارد في زمان واحد والأسبقية لا يصلح للترجيح حينئذ لان العلية إذا كانت مستدامة كانت بالنسبة إلى كل زمان كالعلية الابتدائية الثانية القياس بالطريق الأولى هو القياس الذي يكون علة الحكم فيه في الفرع أقوى وآكد منها في الأصل ولا بد في الحجية من العلم بها و بكونها كافية في ثبوت الحكم وبتحققها في الفرع وقد يطلق عليه القياس الجلي وهو أعم منه من وجه لان المراد به ما كان الفارق فيه بين الأصل والفرع معلوم الانتفاع ولا يعتبر العلم بالحكمة المحققة لعلية العلية بل يكفي مجرد العلم بالعلية كما في المنصوص العلة ولا يكفي مجرد الظن بأصل العلية أو بتماميتها أو بتحققها في الفرع ما لم يكن بأحد الظنون المعتبرة وقول العلامة بعد ذكر منصوص العلة وقياس الضرب على التأفيف ليس من هذا الباب لان الحكم في الفرع أقوى مما لا ظهور له في الاكتفاء بمجرد كون العلة في الفرع أقوى وإن لم يثبت العلية بدليل معتبر كما توهمه الفاضل
(٣٨٥)