كما يشاهد في بعضها بعد كشف الشرع كالغناء وشرب الفقاع لا يوجب تزلزل العقل في قطعه لأنه لا منشأ له قبل ورود الشرع فلا يعتد به العقل أ لا ترى أن من احترز عن الجلوس تحت الحائط المحكم البنيان لاحتمال أن ينهدم يلحق تجويزه ذلك بظنون أصحاب الجنون والسوداء مع أن هذا الاحتمال معارض باحتمال المفسدة في ترك الفعل أيضا وهو يستلزم التكليف بالمحال والمانع لم يتمسك على المنع إلا بكونه تصرفا في ملك الغير بغير إذنه فكأنه نفي احتمال مفسدة أخرى وهذه المفسدة أيضا منفية أقول لا تنهض الحجة المذكورة إلا بإثبات الإباحة الظاهرية لان خلو الفعل عن أمارات المفسدة لا يوجب القطع بانتفائها وأما حكم العقل بقبح التحرز عن الجلوس تحت الحائط المحكم البنيان فهو حكم منه ظاهري لظهور أن العقل لا يقطع بعدم ترتب مفسدة الانهدام عليه لكن يحكم بقبح البناء في الظاهر على خلاف ذلك وبالجملة نفرق بين تجويز الانهدام على الحائط المذكور وبين العمل بمقتضى هذا التجويز من التحرز عن الجلوس تحته لأجل ذلك فالذي يحكم العقل بقبحه وسفه فاعله هو الثاني دون الأول فظهر من ذلك فساد ما ادعاه من أن الاذن منه تعالى يعني الاذن الواقعي معلوم عقلا لما بينا من احتمال الخلاف مع أن اعتبار الاذن في الدليل غير سديد لأنه هنا بمعنى الإباحة فيكون الاستدلال مصادرة ومعارضة احتمال المفسدة في الفعل باحتمال المفسدة في الترك لا يوجب القطع بالإباحة الواقعية و بطلان ما تمسك به المانع لا يوجب بطلان دعواه لجواز أن يقام عليها حجة أخرى فضلا عن ثبوت ما يدعيه لاحتمال الواسطة احتج القائلون بالحظر بأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيحرم ورد تارة بمنع حكم العقل بحرمة التصرف في ملك الغير وإنما يثبت ذلك بالشرع ولو سلم فإنما يسلم فيمن يلحقه بالتصرف ضرر وهو هنا منتف لتنزهه تعالى عنه ولو سلم فمعارض بما نحققه في المنع من الضرر الناجز على النفس وليس تحمله لدفع ضرر الخوف أولى من العكس وأشدية الضرر المخوف معارضة بتنجز الضرر الاخر و أخرى بالتنظير وهو أن من ملك بحرا لا ينزف واتصف بغاية الجود وأحب مملوكه قطرة من ذلك فكيف يدرك بالعقل تحريمها والتقريب ظاهر وقد يجاب أيضا بلزوم التكليف بالمحال إذا فرض ضدان لا ثالث لهما كالحركة والسكون وأورد عليه بأنه خارج عن محل النزاع إذ لا نسلم أن لا حكم للعقل فيه بل يحكم بإباحة أحدهما قطعا ويمكن أن يجاب أيضا بأن الخصم لعله لا يساعد على كون السكون فعلا بل هو عدم فعل الحركة فلا يلزمه القول بالتكليف بالمحال بل يلزمه القول بحرمة الحركة على التعيين إلا أن يقال بنقل الكلام إلى الكف الذي هو سبب السكون وهو أمر وجودي ويمكن دفعه بأن الظاهر أن نزاعهم في أفعال الجوارح فقط بدليل أن دليلهم من حرمة التصرف في ملك الغير لا يساعد على تحريم التصرف في نفسه إلا أن يقال بأنه أيضا ملك للغير فيحرم عليه التصرف في نفسه ولو بإحداث الكف فيها ولا يخلو من بعد نعم يمكن أن يقال هذه مناقشة في المثال فيبقى الاشكال المدعى بحاله و لا محيص عنه إلا بالتزام القول بالإباحة حينئذ وتخصيص الحظر بغيره حجة النافي للحكم أن المبيح والحاظر إن أرادا خطاب الشرع بذلك فالتقدير أن لا شرع وإن أرادا حكم العقل بذلك لزم التناقض إذ المفروض أنه مما لا حكم للعقل فيه بحسن ولا قبح في حكم الشارع يعني أن فرض العنوان ما لا يدرك العقل حكمه أو حسنه وقبحه ينافي دعوى حكم العقل فيه بالإباحة أو الحظر والجواب أنا نختار الشق الأخير ولا تناقض لان المراد أن ما لا يدرك العقل حكمه بغير هذا العنوان أو هذه الجهة أعني كونه مما لا يدرك العقل حسنه وقبحه هل يحكم عليه بعد ملاحظته بهذا العنوان وهذه الجهة بالإباحة أو الحظر أو لا فلا ينافي حكم العقل عليه بأحدهما ما اعتبر فيه من عدم حكم العقل فيه بأحدهما لتغاير الجهتين وإلى هذا يرجع ما قيل من أنه لا منافاة بين عدم الحكم على شئ مع قطع النظر عن كونه مجهولا وبين الحكم عليه باعتبار كونه مجهولا وتنظر فيه بعض المعاصرين بأن حكم المبيح بالإباحة أو الحاظر بالحظر حينئذ ليس من جهة كونه مجهول الحكم عند العقل بل لأنه منفعة مأذون فيها أو تصرف في ملك الغير بغير إذنه فكيف يجعل محل النزاع مجهول الحكم مع أن مقتضى دليل الباحثين علمهم بالحكم ثم قال فإن قيل ذلك مقتضى دليلهم بالنظر إلى ظاهر الحال وقد يتبدل الحكم بظهور خلافه فيعلم أن الحكم السابق إنما كان حكم مجهول الحكم قلنا هذا كلام سار في سائر المطالب المعلومة فكثيرا ما يعلم حكم الشئ بالضرورة أو النظر ثم يظهر خلافه ولا يلزم منه أن يكون ذلك حكم الشئ من حيث إنه مجهول الحكم بل وظيفة الناظر في كل وقت إنما هي التخلية التامة والبناء على ما أدى إليه نظره سواء صادف الواقع أو لا ثم قال نعم هذا يجري فيما لا نص فيه من الاحكام التي لا مسرح للعقل فيها أصلا كوجوب غسل الجمعة فإن حكمه قبل ثبوت الشرع من حيث هو مجهول عدم الوجوب لا مع قطع النظر عنه وأين هو من الحكم بالإباحة هذا ملخص كلامه أقول وفيه ما لا يخفى لان حكم المبيح و الحاظر بالإباحة والحظر من جهة كونه منفعة مأذونا فيها أو تصرفا بغير الاذن لا ينافي كونه باعتبار جهالة الحكم أيضا كيف وتلك الجهتان إنما يثبتان لمواردهما عندهم باعتبار هذه الجهة فإن المبيح إنما يقول في شم الورد مثلا بأنه منفعة مأذون فيها بعد أخذه بعنوان مجهول الحكم كما يدل عليه اعتباره لخلوها عن أمارات المفسدة وكذلك الحاظر إنما يقول بأنه تصرف بغير الاذن بعد أخذه بهذا العنوان إذ مراده بغير الاذن ظاهر إلا واقعا إذ لا طريق له إليه فيدل على اعتباره الجهالة بالحكم في الحكم وبالجملة فكون الشئ مجهول الحكم دليل أصولي على حكمه بمعنى أنه يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إليه لا دليل منطقي وأما ما أورده من السؤال فمورده ما ذكره أخيرا من أن مقتضى أدلتهم العلم بالحكم فكيف يجعل الموضوع مجهول
(٣٤٨)