أصالة البراءة حتى يصل النهي فدلت على أنه لا يصح الحكم بوجوب شئ أو حرمته شرعا لحكم العقل بحسنه أو قبحه وأخرى على الانشاء على معنى أن حكم كل ما لم يرد فيه نهي وإن أدرك العقل قبحه واعترض عليه بعض المعاصرين بأن المعنى الأول أيضا إنشاء لحكم ما لم يرد فيه نهي بالمنع من الحكم بالمنع الشرعي إذ ليس وظيفة الإمام عليه السلام بيان الموضوعات من عدم جواز إطلاق الحرام الشرعي عليه في الاصطلاح بل وظيفته بيان الحكم فيرجع المعنى إلى أن ذلك ليس بحرام شرعي ويلزمه أن يكون مباحا فيرجع إلى المعنى الثاني ويتحد الوجهان ولا سبيل إلى الفرق بأن المراد على الأول إفادة الإباحة الظاهرية نظرا إلى أصل البراءة وعلى الثاني إفادة الإباحة الواقعية لان جعل الحكم مغيا بغاية كما يدل عليه كلمة حتى تنافي الحمل على الإباحة الواقعية هذا محصل كلامه وفيه نظر لان الظاهر أن مراد المستدل بقوله لا يحكم عليه بالمعنى الشرعي لا يقع عليه الحكم بالمنع وهذا إخبار قطعا لاحتماله في نفسه المطابقة وعدمها لا يقال فيلزم الكذب لوقوع الحكم بالمنع من المخالفين في المسألة لأنا نقول المراد عدم وقوع الحكم الصحيح كما يدل عليه قوله ثانيا لا يصح الحكم ووقوع حكم الصحيح منهم ممنوع كيف لا والكلام في نفي صحته فلا يلزم الكذب والأظهر أن ينزل كلامه على أن قوله عليه السلام كل شئ مطلق يحتمل أن يكون إخبارا عن الحكم الثابت للأشياء في الشرع قبل ورود النهي من الاطلاق ولو ظاهرا أو أن يكون إنشاء منه عليه السلام لذلك وهذان الوجهان يجريان أيضا في مثل قولهم يجب كذا أو كتب عليكم كذا أو هذا واجب أو فريضة ثم ما ادعاه من أن التحديد بالغاية ينافي كون الحكم واقعيا بظاهره ظاهر الفساد لان كثيرا من الاحكام الواقعية مغياة بغايات بل الوجه في دفعه أن يقال لا يعقل من الحكم الواقعي إلا ما استند عدم تعلقه بالمكلف إلى عدم علمه به ولا من الحكم الظاهري إلا ما استند تعلقه به إلى علمه به أو بعدم علمه بالحكم الواقعي فإذا كانت الإباحة منوطة بعدم العلم بخلافها كما هو نص الرواية كانت حكما ظاهريا وكان خلافها حكما واقعيا لا محالة ولا يرد النقض بالصلاة في الثوب المستصحب الطهارة لان المراد عدم العلم من حيث الحكم لا من حيث الموضوع وسيأتي لهذا مزيد تحقيق في محله الثالث أن الثواب والعقاب لا يترتبان إلا على الطاعة والمعصية وهما إنما يتحققان بموافقة الأوامر والنواهي اللفظية أو مخالفتهما فحيث لا أمر ولا نهي لفظا لا إطاعة ولا معصية فلا ثواب ولا عقاب فلا وجوب ولا حرمة لا يقال لا نسلم انحصار صدق الإطاعة والمعصية في موافقة الخطاب اللفظي ومخالفته بل يعم اللفظي وغيره لأنا نقول القدر الثابت من الأدلة وجوب اتباع القطع أو الظن الحاصلين من قول المعصوم أو فعله أو تقريره دون غيرها والكلام في التعويل على هذه الطريقة كالكلام في التعويل على الرؤيا فكما لا دليل على جواز التعويل على الثاني فكذلك على الأول والجواب المنع من انحصار صدق الطاعة والعصيان في موافقة الخطاب اللفظي ومخالفته والعرف والعادة شاهدان بذلك ولو سلم فترتب الثواب والعقاب لا يناط بالخطاب اللفظي أ لا ترى أن المولى إذا لم يأمر عبده بالمحافظة على أمواله أو لم ينهه عن إتلافها فأمكن اللص منها أو أتلفها أنه يعد مستحقا للعقاب لفعله ما يسخط المولى كما أنه إذا حافظ عليها أو تمانع من إتلافها طلبا لرضى مولاه كان مستحقا للمدح والثواب لفعله ما يرضى به المولى وإنكار ذلك مكابرة ظاهرة واستحقاقهما كاف في تحقق الواجب والحرام الشرعيين على ما علم من تعريفهما ولو سلم اختصاص صدق الطاعة والمعصية بموافقة الخطاب اللفظي ومخالفته وأنهما لا يتحققان في الفرضين المذكورين لكن لا ريب في استحقاقه الثواب في الأول لفعله ما يرضى المولى والعقوبة في الثاني لفعله ما يسخطه وإنكاره مكابرة بينه وحصوله في المقام كاف في تحقق الوجوب والتحريم الشرعيين إذ المعتبر فيهما على ما علم من تعريفهما إنما هو استحقاق العقوبة على الترك والفعل ثم حجية القطع ضرورية تشهد به الفطرة السليمة فلا معنى لمطالبة الدليل عليها ولو كان حجيته مستفادة بالنظر لدار أو تسلسل إذ لا يزيد دليلها على كونه مقطوعا بصحته وباستلزامه إياها فيكون حجية كل من القطعين على هذا التقدير نظرية تتوقف على الدليل فإن عاد إلى الأول لزم الدور وإلا تسلسل وأما تنظير ذلك بالرؤيا فإن كان بالرؤيا المقطوع بصحتها وصدقها فعدم حجيتها لعدم دليل عليها فاسدة كما عرفت وإن كان بالرؤيا المحتملة للصدق أو المظنونة الصدق كما هو الغالب فالتنظير باطل وإن أريد التقريب فلنا تنظير العقل الذي فينا بالالهام الذي يوجد في الأنبياء والأئمة فكما أن مدركاتهم بالالهام حجة في حقهم بالضرورة من غير حاجة إلى قيام دليل عليه كذلك مدركات العقل حجة في حقنا ولا حاجة إلى قيام دليل عليه الرابع أن أصحابنا والمعتزلة قالوا بأن التكليف فيما يستقل به العقل بمعنى الخطاب به في ظاهر الشريعة لطف وأن العقاب بدون اللطف قبيح ومقتضى ذلك عدم ترتب العقاب على ما لم يرد به خطاب في ظاهر الشريعة وإن استقل به العقل لعدم تحقق اللطف فيه والجواب المنع من قبح العقاب بدون اللطف مطلقا وإنما المسلم قبحه بدون اللطف اللازم في التكليف كالبيان فيما لا يستقل به العقل سلمنا لكن يكفي في حصول اللطف اعتضاد العقل بالعمومات الدالة على حجيته كالآيات المتقدمة بالنسبة إلى الموارد التي ساعدنا على دلالتها على حجيته فيها وإن أريد اعتضاده بحسب خصوصيات موارده فتوجه المنع عليه جلي لان عموم النقل يعتبر في تأسيس ما لا يستقل به العقل فاعتباره في تأكيد ما استقل به العقل أولى ولا يذهب عليك أن أهل الكلام تمسكوا بالمقدمة الأولى على وجوب بعث الأنبياء بضميمة القاعدة
(٣٤٤)