واستحبابه له وإذا أدرك قبحه أدرك علم الشارع به واستكراهه له ولا نعني بالحكم الشرعي الاستحباب الشارع للشئ المنقسم إلى استحباب إيجابي وندبي واستكراهه المنقسم إلى استكراه تحريمي وتنزيهي فاستقلاله بإدراك أحد الامرين يوجب استقلاله بإدراك الاخر وذلك لما ثبت عندنا من أن الامر عبادة عن إرادة الفعل من المكلف والنهي عبارة عن إرادة الترك منه والجواب ظاهر مما مر فإنا لا نسلم أن حسن الشئ أو قبحه يستلزم وقوع الالزام بفعله أو تركه من كل مكلف حكيم وإنما يسلم ذلك في حق من ليس له سلطان المالكية ولا تملك المجازات بالانعام والانتقام كالعقل فإن حكومته في الافعال حكومة إرشاد وهداية لا حكومة سياسة و سلطنة ولهذا لا يستحق الذم من يخالف العقل من جهة مخالفته لأمر العقل أو نهيه بل من جهة علمه بقبح الفعل وارتكابه له وأما من كان له رتبة السياسة والسلطنة فلا بد أن يراعي في أحكامه الحكم التي يناسب نظام السياسة ويحسن مراعاتها في القيام بوظائف السلطنة فقد يتوقف انتظام أمر السياسة على رفع التكليف إلى أمد معلوم كزمان البلوغ وإن حصل عقل التكليف قبله أو على اعتبار طريق في تعيين مورد الحسن والقبح غير العلم لكونه أولى عنده من إناطة الحكم به أو ما أشبه ذلك وقد يقتضي مقام السياسة اختبار العبد بالالزام ببعض الأعمال التي يحسن اختباره بها وإن تجردت في نفسها عن صفة الحسن وقد يقتضي منعه عن تناول بعض ألم آكل اللذيذة المباحة عقلا مجازاة له على بعض الأعمال القبيحة كقوله تعالى في تحريم الشحوم على اليهود ذلك جزيناهم ببغيهم إلى غير ذلك فإن شيئا من هذه الجهات مما لا سبيل للعقل إلى اعتباره بالنسبة إلى أحكامه الرابع الامر بالقبيح قبيح عند العقل كالنهي عن الحسن فيمتنع صدوره عنه تعالى لعلمه وحكمته وتعاليه عن شوب الحاجة والنقصان لا يقال لا يلزم من ذلك وقوع الامر بالحسن والنهي عن القبيح ليتم الملازمة لجواز خلو الواقعة عن الحكم رأسا فإن الحكم أمر جعلي ويجوز أن لا يكون للشارع في خصوص واقعة جعل أصلا لأنا نقول هذا الاحتجاج مبني على ما ثبت عندنا بالاخبار والآثار من أن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا بينه لنبيه صلى الله عليه وآله وبينه النبي لأوصيائه عليه السلام فالاحكام كلها مقررة عندهم مخزونة لديهم وليس في الواقع واقعة خالية عن الحكم ويمكن التمسك في دفع ذلك أيضا بما مر في الدليل السابق إلا أنه يخل بتعددهما و الجواب عنه أيضا ظاهر مما مر فإنا نلتزم بقبح الامر بالقبيح والنهي عن الحسن في حقه تعالى كما مر لكن لا يثبت بمجرد ذلك الملازمة الكلية بين العقل والشرع كما عرفت الخامس الآيات الدالة على ذلك كقوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر وجه الدلالة إن عدل كل شئ وسطه و مستقيمة فعدل الافعال مستقيمها ومستحسنها عقلا وقضية تعلق الامر به وعدم انفكاك حسن الفعل عن أمر الشارع به والفحشاء كالمنكر عبارة عن ما هو قبيح عقلا وقضية النهي عنه عدم انفكاك قبح الشئ عن النهي الشرعي ولو عممنا الألفاظ الثلاثة إلى الترك لدل كل من الفقرتين على كل من الحكمين وقوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن فإنه يدل على أن كل قبيح عقلي محرم شرعا ولو عمم الفواحش إلى التروك دل على أن كل واجب عقلي واجب شرعا وفي هذه الآية دلالة على حصر المحرمات الشرعية في القبائح العقلية وقوله تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ووجه الدلالة أن المعروف هو الحسن العقلي والمنكر هو القبيح العقلي و قضية الامر بالأول والنهي عن الثاني عدم الانفكاك في المقامين و جعل بعض أفاضل المتأخرين موضع الاستدلال بهذه الآية قوله تعالى ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ووجه الاستدلال به أن الطيب ظاهر فيما حسن فعله والخبيث فيما قبح فعله فيستفاد حلية كل حسن وحرمة كل قبيح وقوله تعالى ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقوله تعالى وأمر بالعرف وأمثال ذلك ووجه الاستدلال بها ما مر والجواب من وجهين الأول أن هذه الآيات لا تساعد على إثبات الملازمة الكلية أما الآية الأولى فللمنع من كون المراد بالعدل ما يقابل القبيح بل ما يقابل الظلم تنزيلا للفظ على معناه المتبادر الظاهر سلمنا لكن لا أقل من تكافؤ الاحتمالين فلا يتم الدلالة سلمنا لكن لا عموم في العدل فإنه مفرد معرف وهو ظاهر في الجنس ولا دلالة لها أيضا على الحصر فيجوز الانفكاك من الجانبين مع أن الامر ظاهر في الايجاب والعدل بالمعنى المذكور يتناول المندوب فإن حملا على ظاهرهما دل على خلاف المقصود وإن حمل الامر على مطلق الطلب أو العدل على الحسن الواجب فمع كونه احتمالا لا شاهد عليه غير مفيد لعدم إفادته المساواة على الأول وعدم شموله للمندوب على الثاني وبهذا يظهر الكلام في بقية الآيات فإن المراد بالفحشاء والمنكر إن كان ما يختص بالقبيح المحرم كما هو الظاهر لم يتناول الآية حكم المكروه فلا يتم المقصود وإن كان ما يتناول المكروه فإن حمل النهي على ظاهره من التحريم دل على خلاف المقصود وإن حمل على الأعم منه ومن الكراهة فمع عدم قرينة عليه لا يفيد المساواة بين حكم العقل والشرع كما هو المدعى مع أنها لا تفيد الحصر فيجوز تعلق النهي بغير القبيح للاختيار والامتحان وغير ذلك ومن هذا البيان يظهر الكلام في دلالة الآية الثانية والثالثة وأما الاستدلال بقوله تعالى يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فضعيف لأنه ظاهر في تحليل الطيب من المأكول والخبيث منه لا تحليل الفعل الحسن و
(٣٤١)