والفرق بين المقامين غير خفي فالمناط ممنوع ويمكن دفعه بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المحل والمورد مع أن بعض الآيات ظاهر أو صريح في الاحكام كقوله تعالى قل آلذكرين إلى قوله نبئوني بعلم إن كنتم صادقين وقوله تعالى قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون وقوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش إلى قوله وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون إلى غير ذلك والمراد بالعلم في الآية الأخيرة ما يتناول الظن لشيوع الاطلاق عليه لا ما يختص باليقين وبهذا يجاب عن الآية الأولى وفيه أنه خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا لقرينة وقد يجاب عنها بأن الخطاب فيها شفاهي فلا يتناول غير الحاضرين لمجلس الخطاب أو غير الموجودين زمن الخطاب إلا بالاجماع وثبوته ممنوع في محل النزاع ويمكن دفعه بالتمسك في تعميم الحكم بالروايات الدالة بعمومها على التعميم إن ثبت خروجه عن حد الآحاد لئلا يؤدي حجيتها إلى عدم حجيتها و يمكن الجواب أيضا بأن هذه الآيات إنما تدل على حرمة العمل بالظن الذي لا قاطع على حجيته إذ العمل بالظن الذي قام دليل قاطع على حجيته راجع عند التحقيق إلى العمل بذلك الدليل القاطع فإذا دلنا أمارة قام على وجوب العمل بها قاطع على حكم واقعة فاتباعنا لها اتباع القطع وقولنا بمقتضاها قول بما نعلم ويؤيد ذلك في الآية الثانية أنها وردت ذما على الكفار في اتباعهم الظن ولا ريب أنهم كانوا يتبعون ظنا لا قاطع لهم على حجيتها مع أنه لا معنى للذم على اتباع الظن المقطوع بوجوب اتباعه ولهذا الكلام مزيد بيان يأتي في مبحث الاجتهاد والثاني الأخبار الدالة على حرمة العمل بغير العلم كالموثق إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به وإن جاءكم ما لا تعلمون فها و أهوى بيده إلى فيه وفي أخرى لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه الحديث وفي الحسن ما حق الله على خلقه فقالوا أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا عما لا يعلمون إلى غير ذلك و الجواب أن هذه الأخبار على تقدير تسليم تواترها بالمعنى إنما تدل على تحريم القول والعمل بغير العلم ولا ريب أن العمل بما قام على جواز العمل به قاطع عمل بالعلم وإن لم يكن في نفسه مفيدا للعلم كما في العمل بالشهادة وأخبار ذي اليد وظاهر اللفظ وغير ذلك و قد بينا الأدلة المفيدة للعلم بجواز العمل بخبر الواحد فلا يندرج تحت عموم هذه الأخبار الثالث الاجماع الذي حكاه السيد في جواب مسائل التباينات فقال إنا نعلم علما ضروريا لا يدخل في مثله ريب و لا شك أن علماء الشيعة الإمامية يذهبون إلى أن أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشريعة ولا التعويل عليها وأنها ليست حجة ولا دلالة وقد ملئوا الطوامير وسطروا الأساطير في الاحتجاج على ذلك والنقض على مخالفيهم فيه ومنهم من يزيد على هذه الجملة و يذهب إلى أنه مستحيل عن طريق العقول أن يتعبدنا الله بالعمل بأخبار الآحاد ويجري ظهور مذهبهم في أخبار الآحاد مجرى ظهوره في إبطال القياس في الشريعة وخطره وقال المسألة التي أفردها بالبحث عن العمل بخبر الواحد أنه بين في جواب المسائل التباينات أن العلم الضروري حاصل لكل مخالف للامامية أو موافق بأنهم لا يعلمون في الشريعة بخبر لا يوجب العلم وأن ذلك قد صار شعارا لهم يعرفون به كما أن نفي القياس في الشريعة شعارهم الذي يعلمه منهم كل من خالطهم وأجاب في الذريعة عن التمسك بعمل الصحابة والتابعين بأن الامامية تدفع وتقول إنما عمل بأخبار الآحاد المتأمرون الذين يتحشم التصريح بخلافهم والخروج من جملتهم فإمساك النكير عليهم لا يدل على الرضا بما فعلوه لان الشرط في دلالة الامساك على الرضا أن لا يكون له وجه سوى الرضا من تقية وخوف و ما أشبه ذلك كذا نقل عنه في المعالم والجواب أن الاجماع المدعى على ذلك غير متحقق عندنا إن لم نقل بتحققه على خلافه و نقل السيد له غير خارج عن كونه خبرا واحدا ففي التعويل عليه نقض لدعواه على أن حكايته معارضة بحكاية الشيخ الاجماع على خلافه حيث قال في العدة على ما نقل عنه وأما ما اخترته من المذهب فهو أن خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة وكان مرويا عن النبي صلى الله عليه وآله أو عن واحد من الأئمة عليهم السلام وكان ممن لا يطعن في روايته ويكون سديدا في نقله ولو لم يكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر لأنه إذا كان هناك قرينة تدل على ذلك كان الاعتبار بالقرينة وكان ذلك موجبا للعلم ونحن نذكر القرائن فيما بعد جاز العمل به والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة فإني وجدتها مجتمعة على العمل بهذه الاخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في أصولهم لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعون حتى إن أحدا منهم إذا أفتى بشئ لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور وكان رواية ثقة لا ينكرون حديثه سكتوا و سلموا الامر في ذلك وقبلوا قوله وهذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي صلى الله عليه وآله ومن بعده من الأئمة عليهم السلام إلى زمان الصادق عليه السلام جعفر بن محمد الذي انتشر العلم عنه فكثرت الرواية من جهته فلو لا أن العمل بهذه الاخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ولأنكروه ولأن إجماعهم لا يكون إلا عن معصوم عليه السلام لا يجوز عليه الغلط والسهو ثم قال فإن قيل كيف تدعي الاجماع الفرقة المحقة في العمل بخبر الواحد والمعلوم من حالها أنها لا ترى العمل بخبر الواحد كما أن من المعلوم من حالها أنها لا ترى العمل بالقياس فإذا جاز ادعاء أحدهما جاز ادعاء الاخر قيل له المعلوم من حالها الذي لا ينكر ولا يدفع أنهم لا يرون العمل بخبر الواحد الذي يرويه مخالفهم في الاعتقاد ويختصون بطريقته فأما ما يكون راويه منهم وطريقه أصحابهم فقد بينا أن المعلوم على خلاف ذلك وبينا الفرق بين ذلك وبين القياس أيضا وأنه لو كان معلوما خطر العمل بخبر الواحد لجرى مجرى العمل بالقياس وقد علم خلاف ذلك انتهى وفي كلامه هذا تعريض لمقالة السيد كما لا يخفى على الفطن العارف ثم لو سلمنا الاجماع الذي حكاه
(٢٨٩)