الكلام وغيره وأما تفصيلا فنقول في الوجه الأول بأنا لا نعرف من العرف شهادة على قبح تأخير البيان في محل النزاع والأمثلة التي ذكرها في بيانه منها ما يحتمل أن يكون من محل النزاع ولا قبح فيه على تقديره وهو قوله افعل كذا تهديدا واقتل زيدا مريدا به الضرب الشديد فإنه إن كان وقت الحاجة متأخرا عن زمان الخطاب فلا نسلم القبح فيهما وإلا فالقبح مسلم لكنه خارج عن محل البحث و منها ما هو خارج عن المبحوث عنه وهو قوله رأيت حمارا مريدا به البليد لأنه خبر وليس له من حيث كونه خبرا وقت حاجة يجوز التأخير إليه بل يجب فيه مقارنة القرينة فيه لحال الخطاب لان تجريده عنها يصيره كذبا لان المدار فيه على عدم مطابقة مدلول الكلام للواقع أو للاعتقاد أو لهما معا على اختلاف الآراء ولا ريب في قبحه و أما قوله الفارق بين الحقيقة والمجاز هو القرينة فإن أراد مقارنتها للخطاب فهو على إطلاقه ممنوع وإلا فمسلم ولا جدوى له فيه وأما عن الثاني فبأن المكلف به إنما دل على مراده بالكلام مع القرينة اللاحقة له لا به وحدها ولا ريب في أن المجموع دال عليه وما ادعاه من أنه لا مدخل لوقت الحاجة في دلالة اللفظ فإن أراد به دلالة اللفظ على المعنى في الجملة فمسلم ولا جدوى فيه وإن أراد دلالته عليه من حيث كونه هو المراد فممنوع بعد ما مر القول في نظائره وأما منعه من جواز التأخير في الاخبار ففي محله كما عرفت و ليس فيه قدح لما ذهبنا إليه وأما عن الثالث فبأن غاية ما يقتضيه أن يكون الخطاب به بالنسبة إلى ما قبل وقت الحاجة بمنزلة الخطاب بالمجمل وقد بينا جوازه وأجازه المفصلون والفرق بين القول بأن العام ظاهر في الاستغراق والقول بالوقف إنما يظهر عند وقت الحاجة حيث يبني من قال بالأول على العموم عند عدم ظهور المخصص بخلاف من قال بالثاني وأما عن الوجه الأخير فبأنا لا نسلم أن إيقاع الغير في اعتقاد يخالف الواقع قبيح مطلقا إذ لا دليل عليه من عقل ولا نقل بل وقوعه في المقام في جانب النقل كما يظهر بالتتبع يقتضي بجوازه وقياسه على الكذب ممنوع إذ لا نسلم أن الكذب إنما قبح لكونه إغراء بل لكونه إغراء مخصوصا أو من حيث الخصوصية و لهذا يقبح وإن لم يؤثر في الاعتقاد ومن هنا لا يقبح خروج الفقير في ذي الغنى والقبيح في ذي الجميل ونحو ذلك وإن اشتمل على إغراء الجاهل بحاله مع قبح إخباره بذلك هذا هو التحقيق الذي لا مزيد عليه في الجواب ويمكن أن يجاب أيضا بأن الاغراء إنما يلزم حيث لا يحتمل التجوز وقد بينا أن الاحتمال قائم فيما قبل الحاجة وأصالة الحقيقة بمجردها لا توجب القطع بإرادتها وإنما توجب الظن بها ولا نسلم أن حمل المخاطب عليه إغراء له بالجهل إذ الظن عند العقل كالشك لا اعتداد له به إلا حيث ينهض دليل على اعتباره ومن قال بأن من قال الأصل في الاستعمال الحقيقة أراد أن اللفظ مع فوات وقت القرينة وتجرده عنها يحمل على الحقيقة لا مطلقا فكأنه أراد بالحمل ما يوجب القطع بالمراد ولو في الظاهر كما ذكرنا وحينئذ لا يتجه عليه ما أورده بعض المعاصرين من أن تفسير الأصل بهذا المعنى مما لم يقل به أحد وأنه لا ريب في أن الظاهر من اللفظ المجرد عن القرينة بعد الفراغ من الكلام هو الحقيقة وذلك لان كلام المجيب على ما أولناه به في الدلالة القطعية دون الظنية نعم يتجه ذلك على ظاهره القول في النسخ وما يتعلق به فصل النسخ يأتي لغة للإزالة يقال نسخت الشمس الظل إذا أزالته وللنقل ومنه التناسخ في الأبدان والتناسخ في المواريث قيل ومنه أيضا نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه وفيه ضرب من التوسع إذ لا نقل هناك حقيقة وهل هو مشترك بين المعنيين أو حقيقة في أحدهما مجازا في الاخر أقوال والبحث فيه موكول إلى علم اللغة وأما في عرف الشرع أو المتشرعة فقد ذكروا له حدودا عديدة لا يسلم جلها أو كلها عن وصمة الخلل فقال الفخر الرازي هو اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول وقال الغزالي هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه وقالت المعتزلة هو اللفظ الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل عنه على وجه لولاه لكان ثابتا وقال الفقهاء هو النص الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع تراخيه عن موارده وأورد على الجميع أولا بأن كلا من اللفظ والنص والخطاب دليل النسخ فلا يصح تحديده به و يمكن دفعه بأن النسخ كما يطلق على الرفع كذلك يطلق على ما يدل عليه وتعريفه باللفظ وما في حكمه مبني على أخذه بالمعنى الثاني ولا خفاء في أن تحديده بكل من المعنيين يستلزم تحديده بالمعنى الاخر ولهذا يستغنى بذكر أحدهما عن الاخر وثانيا بدخول أخبار الراوي بالنسخ إذ يصدق عليه تلك الحدود مع أنه خارج عن المحدود وما يقال من أن المراد الرافع بالذات وقول الراوي إنما يكشف عنه فتعسف واضح وثالثا بخروج النسخ بفعله صلى الله عليه وآله فإن النسخ لا يختص بالقول وربما أمكن دفعه عن الحد الثاني بحمل الخطاب فيه على الخطاب النفسي كما يراه الأشاعرة فيتساوى فيه القول والفعل أقول ويرد عليها رابعا بدخول مثل إخبار الوكيل بالطلاق فإن عدمه شرط لدوام الزوجية وبقائها ومثله الكلام في سائر الأخبار أو الشهادات التي تضاهي المقام وخامسا بدخول الاحكام الرافعة لأصل الإباحة فإن شرط بقاء الحكم الثابت به عدم مجئ دليل على خلافه مع أنه لا يسمى نسخا كما ستقف عليه وربما أمكن دفعه عن الحد الأخير بأن المراد بالحكم الشرعي فيه ما يقابل الحكم العقلي وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله وسادسا بمثل قوله لا تفعل بعد قوله افعل كذا إلى أن أقول لك لا تفعل وسأقول لك لا تفعل مع أنه من باب التقييد بالغاية عند جماعة وسابعا بأن لفظ الظهور في الحد الأول مستدرك فإن مدلول النسخ الانتفاء لا ظهور الانتفاء وإن كان أثره لا يظهر في الظاهر إلا بعد ظهوره قالوا والقيدان الأخيران
(٢٣٠)