بل ما يرفع الحكم المتحقق وما توهمه من أن الرفع في الحد ليس مستعملا في حقيقته وإلا لزم البدأ الممتنع في حقه تعالى فليس بشئ لان البدأ إنما يلزم حينئذ إذا جعلنا النسخ عبارة عن رفع الحكم عن زمان ثبت بقاؤه فيه واقعا وليس كذلك بل هو عبارة عن رفعه عن مورده في زمان ثبت بقاؤه فيه قبله لا فيه وبالجملة فكما أن ثبوت الحكم واقعي مستند إلى الإرادة المقتضية له كذلك رفعه أيضا واقعي مستند إلى رفع تلك الإرادة فإن رفع السبب رفع للمسبب كما أن إيجاده إيجاد له ومعنى الرفع إعدام الشئ بعد ثبوته وكما أن وجود الممكن مستند إليه تعالى كذلك عدمه مستند إليه تعالى مع أنه إن جعل عبارة عن رفع الحكم بالنسبة إلى زمان ثبت بقاؤه فيه فهو إنما يوجب البدأ إذا قلنا بأن التكليف عبارة عن الإرادة الحقيقية [أو عدمها ولو قلنا بأنه عبارة عن أمر جعلي وأنه لا يستلزم الإرادة الحقيقية] لم يلزم عليه بدأ ثم النسخ كما يطلق على رفع الحكم كذلك قد يطلق على رفع بعض ألفاظ الكتاب وآياته بمعنى إخراجها عن كونها كتابا وقرآنا ويمكن إرجاعه إلى رفع الحكم لان كونها كتابا وقرآنا حكم وضعي ومرجع النسخ إلى رفعه فيجوز أن يكون النسخ حقيقة فيه بالاشتراك المعنوي أو اللفظي أو مجازا لوجود العلاقة وأما الانساء فهو نسخ اللفظ على وجه لا يبقى معه الذكر وفرق الزمخشري بينه وبين النسخ بأن النسخ إذهاب إلى بدل والانساء إذهاب لا إلى بدل وهو لا يلائم قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها لان ظاهره الاتيان بالبدل على التقديرين فصل اختلفوا في أن النسخ هل هو رفع للحكم الشرعي أو بيان لانتهاء أمده وربما كان في الحدود السابقة ما يشير إلى ذلك ولنحرر أولا محل البحث فنقول لا كلام في أن وقوع النسخ يستلزم وقوع أمرين أحدهما ارتفاع الحكم السابق والثاني طريان ضده من أحد الاحكام الاخر بالنسبة إلى من يتحقق في حقه شرائط التكليف لكن يتوقف الثاني على القول بعدم جواز خلو الفعل من الاحكام أو القول بأن الخلو من الجميع أيضا ضد وإنما يتصور النزاع في مقامين الأول أن ارتفاع الحكم السابق هل يستند إلى طريان الضد أو يستند إلى نفسه [ بمعنى أنه يزول عند عدم العلة لبقائه] ويكون طريان الضد من المقارنات أو من لوازم الموضوع وهذا النزاع على ما نبه عليه الفخر الرازي ناظر إلى النزاع المعروف بين أهل المعقول من أن الاعراض هل تبقى بعد وجودها فيكون زوالها بطريان الضد أو لا تبقى فيكون زوالها بنفسها الثاني أن الحكم السابق هل يتناول لما بعد زمن النسخ أيضا بحسب الواقع فلا يرتفع إلا برافع أو يختص بما قبله وإن كان بعمومه متناولا لما بعده بحسب الظاهر فيرتفع الحكم بنفسه فيكون الناسخ مثبتا للغاية وكاشفا عنها وعلى الوجهين فالنزاع غير لفظي وتوهم العضدي أن نزاعهم في المقام لفظي و وجهه بأن القول بأن النسخ عبارة عن انتهاء أمد الحكم دون رفعه يحتمل وجوها ثلاثة اثنان فاسدان وواحد لفظي لأنهم إن أرادوا أن كلا من الحكم والتعلق قديم فلا يتصور رفع شئ منهما فهذا فاسد لان انتهاء الحكم على ما التزموا به يستلزم رفعه وإن أرادوا أن المتعلق بفعل مستقبل لا يمكن رفعه فإذا نسخ علم أنه لم يكن متعلقا به وهذا أيضا فاسد لأنه يستلزم القول بامتناع النسخ قبل العمل و هم لا يقولون به وإن أرادوا أن النسخ بيان لأمد الحكم بحسب الواقع و رافع للظن ببقائه بحسب الظاهر فهذا مراد القائلين بالرفع فالنزاع لفظي وفيه نظر لأنا نمنع حصر القسمة لجواز أن يراد بالانتهاء عدم الحاجة إلى طريان الضد كما أن المراد بالرفع ثبوت الحاجة إليه أو نختار القسم القسم الأول ونمنع كون الانتهاء مستلزما للرفع فوجهه واضح أو نختار القسم الثاني ونقول إنما أرادوا أن المتعلق بحسب الواقع بفعل مستقبل لا يمكن رفعه على وجه لا يلزم البدأ وأما المتعلق به بحسب الظاهر فجائز الرفع ومنه النسخ قبل العمل لكنه ليس من باب الرفع حقيقة بل من باب الارتفاع مع أن ورود الاشكال عليهم لا يقتضي أن يكون نزاعهم لفظيا وأما ما ذكره أخيرا من أن مراد القائلين بالرفع أنه بيان لأمد الحكم بحسب الواقع ورافع للظن ببقائه بحسب الظاهر فتأويل بعيد بل التحقيق أنهم أرادوا أنه رافع بحسب الواقع كما يفصح عنه أدلتهم إذا عرفت هذا فالحق أن تحقيق المسألة مبني على تحقيق التكليف فإن قلنا بأن مرجع التكليف إلى الإرادة الحقيقية تعين أن يكون النسخ كاشفا عن ارتفاع الحكم بالنسبة إلى زمن النسخ و مفيد الانقضاء أمده وامتنع أن يجعل رفعا حقيقيا للحكم الثابت في زمن النسخ وإلا لاستلزم البدأ وهو ممتنع في حقه تعالى نعم يصح أن يقال حينئذ بأن النسخ رفع حقيقي للحكم الثابت قبل زمن النسخ من حيث أن وجود الحكم وعدمه كليهما مستندان إلى المكلف فكما يصح أن يقال إنه يثبت الحكم ويوجد بإرادته المستندة إلى اختياره كذلك يصح أن يقال إنه يرفعه وينفيه بعدم إرادته المستند إلى اختياره إذ ليس موجبا في شئ منها إلا أن القائل بالرفع لم يرد به مثل ذلك فإن الرفع بهذا المعنى متحقق في كل ذي غاية ولا اختصاص له بالنسخ وإن جعلناه عبارة عن مجرد أمر اعتباري يحدثه المكلف في المكلف كإلزامه به أو جعل الفعل في حقه بحيث يستحق عليه الثواب أو العقاب أو جعلناه أعم منه ومن الأول فالحق أنه يصح حينئذ أن يكون النسخ عبارة عن رفع الحكم الثابت في زمن الرفع لولا الرفع وسيأتي لهذا مزيد بيان احتج الأولون بأنه قد ثبت تعلق الخطاب بالفعل فلا ينعدم لذاته وإلا لامتنع وجوده لامتناع تخلف الذاتي عنها بل بغيره وليس إلا طريان الناسخ وفيه نظر لأنه إن أريد بثبوت تعلق الخطاب بالفعل ثبوته ظاهرا فهذا خارج عن محل النزاع وإن أريد ثبوته واقعا فهو أول الكلام ولو سلم فيجوز أن لا يكون انعدامه لطريان الضد بل الانعدام سببه بناء على أن الممكن الباقي يحتاج في بقائه أيضا كما هو التحقيق احتج الآخرون بوجوه الأول أنه لو لم يرتفع الحكم الأول بنفسه لم يرتفع بغيره وإلا لكان مرتفعا بطريان الضد وهو باطل لان انتفاء الضد الباقي بالطاري ليس بأولى من انتفاء الضد الطاري بالباقي فإن قيل يجوز أن يكون الطاري أقوى إما لأنه حال حدوثه مع السبب فيقوى بتعلقه به بخلاف الباقي فإنه منقطع عن السبب أو لأنه يشتمل على أفراد متعددة والباقي فرد واحد أجيب عن الأول
(٢٣٢)