أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٣ - الصفحة ٣٩٨
مسألة أخذ بعض العلماء من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وهزى إليك بجذع النخلة) * أن السعي والتسبب في تحصيل الرزق أمر مأمور به شرعا وأنه لا ينافي التوكل على الله جل وعلا. وهذا أمر كالمعلوم من الدين بالضرورة. أن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا أمر مأمور به شرعا لا ينافي التوكل على الله بحال؛ لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالا لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه. فهو متوكل على الله، عالم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر. ولو شاء الله تخلف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف.
ومن أصرح الأدلة في ذلك قوله تعالى: * (قلنا يانار كونى بردا وسلاما على إبراهيم) *. فطبيعة الإحراق في النار معنى واحد لا يتجزأ إلى معان مختلفة، ومع هذا أحرقت الحطب فصار رمادا من حرها في الوقت الذي هي كائنة بردا وسلاما على إبراهيم. فدل ذلك دلالة قاطعة على أن التأثير حقيقة إنما هو بمشيئة خالق السماوات والأرض، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب، وأنه لا تأثير لشيء من ذلك إلا بمشيئته جل وعلا.
ومن أوضح الأدلة في ذلك أنه ربما جعل الشيء سببا لشيء آخر مع أنه مناف له: كجعله ضرب ميت بني إسرائيل ببعض من بقرة مذبوحة سببا لحياته، وضربه بقطعة ميتة من بقرة ميتة مناف لحياته. إذ لا تكسب الحياة من ضرب بميت؟ وذلك يوضح أنه جل وعلا يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب، ولا يقع تأثير البتة إلا بمشيئته جل وعلا.
ومما يوضح أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على الله قوله تعالى عن يعقوب: * (وقال يابنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) * أمرهم في هذا الكلام بتعاطي السبب، وتسبب في ذلك بالأمر به، لأنه يخاف عليهم أن تصيبهم الناس بالعين لأنهم أحد عشر رجلا أبناء رجل واحد، وهم أهل جمال وكمال وبسطة في الأجسام. فدخولهم من باب واحد مظنة لأن تصيبهم العين فأمرهم بالتفرق والدخول من أبواب متفرقة تعاطيا للسبب في السلامة من إصابة العين؛ كما قال غير واحد من علماء السلف. ومع هذا التسبب فقد قال الله عنه: * (وقال يابنى لا تدخلوا من باب واحد
(٣٩٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 393 394 395 396 397 398 399 400 401 402 403 ... » »»