وأن تكونوا من أصحاب السعير فلم يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته حتى أخبرنا - وهو أصدق القائلين - بعداوته الداعية للحذر منه ثم لم يكتف بذلك حتى أخبرنا بتفصيل ما يأمر به وأنه أقبح الأشياء وأعظمها مفسدة فقال: * (إنما يأمركم بالسوء) * أي: الشر الذي يسوء صاحبه فيدخل في ذلك جميع المعاصي فيكون قوله: * (والفحشاء) * من باب عطف الخاص على العام لأن الفحشاء من المعاصي ما تناهى قبحه كالزنا وشرب الخمر والقتل والقذف والبخل ونحو ذلك مما يستفحشه من له عقل * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * فيدخل في ذلك القول على الله بلا علم في شرعه وقدره فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله أو نفى عنه ما أثبته لنفسه أو أثبت له ما نفاه عن نفسه فقد قال على الله بلا علم ومن زعم أن لله ندا وأوثانا تقرب من عبدها من الله فقد قال على الله بلا علم ومن قال: إن الله أحل كذا أو حرم كذا أو أمر بكذا أو نهى عن كذا بغير بصيرة فقد قال على الله بلا علم ومن قال: إن الله خلق هذا الصنف من المخلوقات للعلة الفلانية بلا برهان له بذلك فقد قال على الله بلا علم ومن أعظم القول على الله بلا علم أن يتأول المتأول كلامه أو كلام رسوله على معاني اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال ثم يقول: إن الله أرادها فالقول على الله بلا علم من أكبر المحرمات وأشملها وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها فهذه طرق الشيطان التي يدعو إليها هو وجنوده ويبذلون مكرهم وخداعهم على إغواء الخلق بما يقدرون عليه وأما الله تعالى فإنه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي فلينظر العبد نفسه مع أي: الداعيين هو ومن أي: الحزبين؟ أتتبع داعي الله الذي يريد لك الخير والسعادة الدنيوية والأخروية الذي كل الفلاح بطاعته وكل الفوز في خدمته وجميع الأرباح في معاملته المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة الذي لا يأمر إلا بالخير ولا ينهى إلا عن الشر أم تتبع داعي الشيطان الذي هو عدو الإنسان الذي يريد لك الشر ويسعى بجهده على إهلاكك في الدنيا والآخرة؟ الذي كل الشر في طاعته وكل الخسران في ولايته الذي لا يأمر إلا بشر ولا ينهى إلا عن خير ثم أخبر تعالى عن حال المشركين؛ إذا أمروا باتباع ما أنزل الله على رسوله - مما تقدم وصفه - رغبوا عن ذلك وقالوا: * (بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) * فاكتفوا بتقليد الأباء وزهدوا في الإيمان بالأنبياء ومع هذا فآباؤهم أجهل الناس وأشدهم ضلالا وهذه شبهة لرد الحق واهية فهذا دليل على إعراضهم عن الحق ورغبتهم عنه وعدم إنصافهم فلو هدوا لرشدهم وحسن قصدهم لكان الحق هو القصد ومن جعل الحق قصده ووازن بينه وبين غيره تبين له الحق قطعا واتبعه إن كان منصفا ثم قال [تعالى]: * (مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون) * لما بين تعالى عدم انقيادهم لما جاءت به الرسل وردهم لذلك بالتقليد علم من ذلك أنهم غير قابلين للحق ولا مستجيبين له بل كان معلوما لكل أحد أنهم لن يزولوا عن عنادهم أخبر تعالى أن مثلهم عند دعاء الداعي لهم إلى الإيمان كمثل البهائم التي ينعق لها راعيها وليس لها علم بما يقول داعيها ومناديها فهم يسمعون مجرد الصوت الذي تقوم به عليهم الحجة ولكنهم لا يفقهونه فقها ينفعهم فلهذا كانوا صما لا يسمعون الحق سماع فهم وقبول عميا لا ينظرون نظر اعتبار بكما فلا ينطقون بما فيه خير لهم والسبب الموجب لذلك كله أنه ليس لهم عقل صحيح بل هم أسفه السفهاء وأجهل الجهلاء فهل يستريب العاقل أن من دعي إلى الرشاد وذيد عن الفساد ونهي عن اقتحام العذاب وأمر بما فيه صلاحه وفلاحه وفوزه ونعيمه فعصى الناصح وتولى عن أمر ربه واقتحم النار على بصيرة واتبع الباطل ونبذ الحق - أن هذا ليس له مسكة من عقل وأنه لو اتصف بالمكر والخديعة والدهاء أنه من أسفه السفهاء (172 - 173) * (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) * هذا أمر للمؤمنين خاصة بعد الأمر العام وذلك أنهم هم المنتفعون على الحقيقة بالأوامر والنواهي بسبب إيمانهم فأمرهم بأكل الطيبات من الرزق والشكر لله على إنعامه باستعمالها بطاعته والتقوي بها على ما يوصل إليه فأمرهم بما أمر به المرسلين في قوله: * (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) * فالشكر في هذه الآية هو العمل الصالح وهنا لم يقل حلالا لأن المؤمن أباح الله له الطيبات من الرزق خالصة من التبعة ولأن إيمانه يحجزه عن تناول ما ليس له وقوله: * (إن كنتم إياه تعبدون) * أي: فاشكروه فدل على أن من لم يشكر الله فلم يعبده وحده كما أن من شكره فقد عبده وأتى بما أمر به ويدل أيضا على أن أكل الطيب سبب للعمل الصالح وقبوله والأمر بالشكر عقيب النعم؛ لأن الشكر يحفظ النعم الموجودة ويجلب النعم المفقودة كما أن الكفر ينفر النعم المفقودة ويزيل النعم الموجودة ولما ذكر تعالى إباحة الطيبات ذكر تحريم الخبائث فقال: * (إنما حرم
(٨١)