تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٩٦
يقتضي اتفاقهم عليها واجتماعهم فأخبر تعالى أنهم بغى بعضهم على بعض وحصل النزاع والخصام وكثرة الاختلاف فاختلفوا في الكتاب الذي ينبغي أن يكونوا أولى الناس بالاجتماع عليه وذلك من بعد ما علموه وتيقنوه بالآيات البينات والأدلة القاطعات فضلوا بذلك ضلالا بعيدا * (فهدى الله الذين آمنوا) * من هذه الأمة * (لما اختلفوا فيه من الحق) * فكل ما اختلف فيه أهل الكتاب وأخطأوا فيه الحق والصواب هدى الله للحق فيه هذه الأمة * (بإذنه) * تعالى وتيسيره لهم ورحمته * (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * فعم الخلق تعالى بالدعوة إلى الصراط المستقيم عدلا منه تعالى وإقامة حجة على الخلق لئلا يقولوا: * (ما جاءنا من بشير ولا نذير) * وهدى - بفضله ورحمته وإعانته ولطفه - من شاء من عباده فهذا فضله وإحسانه وذاك عدله وحكمته (214) * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) * يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم فهي سنته الجارية التي لا تتغير ولا تتبدل أن من قام بدينه وشرعه لا بد أن يبتليه فإن صبر على أمر الله ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها ومن السيادة آلتها ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله بأن صدته المكاره عما هو بصدده وثنته المحن عن مقصده فهو الكاذب في دعوى الإيمان فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني ومجرد الدعاوى حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم * (مستهم البأساء) * أي: الفقر * (والضراء) * أي: الأمراض في أبدانهم * (وزلزلوا) * بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل والنفي وأخذ الأموال وقتل الأحبة وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال وآل بهم الزلزال إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به ولكن لشدة الأمر وضيقه قال * (الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) * فلما كان الفرج عند الشدة وكلما ضاق الأمر اتسع قال تعالى: * (ألا إن نصر الله قريب) * فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن فكلما اشتدت عليه وصعبت إذا صبر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنة في حقه منحة والمشقات راحات وأعقبه ذلك الانتصار على الأعداء وشفاء ما في قلبه من الداء وهذه الآية نظير قوله تعالى: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) * وقوله [تعالى:] * (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) * فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان (215) * (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) * أي: يسألونك عن النفقة وهذا يعم السؤال عن المنفق والمنفق عليه فأجابهم عنهما فقال: * (قل ما أنفقتم من خير) * أي: مال قليل أو كثير فأولى الناس به وأحقهم بالتقديم أعظمهم حقا عليك وهم الوالدان الواجب برهما والمحرم عقوقهما ومن أعظم برهما النفقة عليهما ومن أعظم العقوق ترك الإنفاق عليهما ولهذا كانت النفقة عليهما واجبة على الولد الموسر ومن بعد الوالدين الأقربون على اختلاف طبقاتهم الأقرب فالأقرب على حسب القرب والحاجة فالإنفاق عليهم صدقة وصلة * (واليتامى) * وهم الصغار الذين لا كاسب لهم فهم في مظنة الحاجة لعدم قيامهم بمصالح أنفسهم وفقد الكاسب فوصى الله بهم العباد رحمة منه بهم ولطفا * (والمساكين) * وهم أهل الحاجات وأرباب الضرورات الذين أسكنتهم الحاجة فينفق عليهم لدفع حاجاتهم وإغنائهم * (وابن السبيل) * أي: الغريب المنقطع به في غير بلده فيعان على سفره بالنفقة التي توصله إلى مقصده ولما خصص الله تعالى هؤلاء الأصناف لشدة الحاجة عمم تعالى فقال: * (وما تفعلوا من خير) *: من صدقة على هؤلاء وغيرهم بل ومن جميع أنواع الطاعات والقربات لأنها تدخل في اسم الخير * (فإن الله به عليم) * فيجازيكم عليه ويحفظه لكم كل على حسب نيته وإخلاصه وكثرة نفقته وقلتها وشدة الحاجة إليها وعظم وقعها ونفعها (216) * (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) * هذه الآية فيها فرض القتال في سبيل الله بعدما كان المؤمنون مأمورين بتركه لضعفهم وعدم احتمالهم لذلك فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكثر
(٩٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 ... » »»