تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٩٤
ففي هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص ليست دليلا على صدق ولا كذب ولا بر ولا فجور حتى يوجد العمل المصدق لها المزكي لها وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود والمحق والمبطل من الناس بسبر أعمالهم والنظر لقرائن أحوالهم وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم ثم ذكر أن هذا المفسد في الأرض بمعاصي الله إذا أمر بتقوى الله تكبر وأنف و أخذته العزة بالإثم) * فيجمع بين العمل بالمعاصي والكبر على الناصحين * (فحسبه جهنم) * التي هي دار العاصين والمتكبرين * (ولبئس المهاد) * أي: المستقر والمسكن عذاب دائم وهم لا ينقطع ويأس مستمر لا يخفف عنهم العذاب ولا يرجون الثواب جزاء لجناياتهم ومقابلة لأعمالهم فعياذا بالله من أحوالهم (207) * (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد) * هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة الله ورجاء لثوابه فهم بذلوا الثمن للمليء الوفي الرؤوف بالعباد الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك وقد وعد الوفاء لذلك فقال: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) * إلى آخر الآية وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا وبذل ما به رغبوا فلا تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من الكريم وما ينالهم من الفوز والتكريم (208 - 209) * (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم) * هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا * (في السلم كافة) * أي: في جميع شرائع الدين ولا يتركوا منها شيئا وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه إن وافق الأمر المشروع هواه فعله وإن خالفه تركه بل الواجب أن يكون الهوى تبعا للدين وأن يفعل كل ما يقدر عليه من أفعال الخير وما يعجز عنه يلتزمه وينويه فيدركه بنيته ولما كان الدخول في السلم كافة لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال: * (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) * أي: في العمل بمعاصي الله * (إنه لكم عدو مبين) * والعدو المبين لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء وما به الضرر عليكم ولما كان العبد لا بد أن يقع منه خلل وزلل قال تعالى: * (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات) * أي: على علم ويقين * (فاعلموا أن الله عزيز حكيم) * وفيه من الوعيد الشديد والتخويف ما يوجب ترك الزلل فإن العزيز القاهر الحكيم إذا عصاه العاصي قهره بقوته وعذبه بمقتضى حكمته فإن من حكمته تعذيب العصاة والجناة (210) * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور) * وهذا فيه من الوعيد الشديد والتهديد ما تنخلع له القلوب يقول تعالى: * (هل ينتظر الساعون في الفساد في الأرض المتبعون لخطوات الشيطان النابذون لأمر الله إلا يوم الجزاء بالأعمال الذي قد حشي من الأهوال والشدائد والفظائع ما يقلقل قلوب الظالمين ويحق به الجزاء السيئ على المفسدين وذلك أن الله تعالى يطوي السماوات والأرض وتنثر الكواكب وتكور الشمس والقمر وتنزل الملائكة الكرام فتحيط بالخلائق وينزل الباري [تبارك] تعالى: * (في ظلل من الغمام) * ليفصل بين عباده بالقضاء العدل فتوضع الموازين وتنشر الدواوين وتبيض وجوه أهل السعادة وتسود وجوه أهل الشقاوة ويتميز أهل الخير من أهل الشر وكل يجازي بعمله فهنالك يعض الظالم على يديه إذا علم حقيقة ما هو عليه وهذه الآية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة المثبتين للصفات الاختيارية كالاستواء والنزول والمجيء ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى عن نفسه أو أخبر بها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم فيثبتونها على وجه يليق بجلال الله وعظمته من غير تشبيه ولا تحريف خلافا للمعطلة على اختلاف أنواعهم من الجهمية والمعتزلة والأشعرية ونحوهم ممن ينفي هذه الصفات ويتأول لأجلها الآيات بتأويلات ما أنزل الله عليها من سلطان بل حقيقتها القدح في بيان الله وبيان رسوله والزعم بأن كلامهم هو الذي تحصل به الهداية في هذا الباب فهؤلاء ليس معهم دليل نقلي بل ولا دليل عقلي أما النقلي فقد اعترفوا أن النصوص الواردة في الكتاب والسنة ظاهرها بل صريحها دال على مذهب أهل السنة والجماعة وأنها تحتاج لدلالتها على مذهبهم الباطل أن تخرج عن ظاهرها ويزاد فيها وينقص وهذا كما ترى لا يرتضيه من في قلبه مثقال ذرة من إيمان وأما العقل فليس في العقل ما يدل على نفي هذه الصفات بل العقل دل على أن الفاعل أكمل من الذي لا يقدر
(٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 ... » »»